Friday, January 18, 2019

الفوضى






لعل الفوضى هي الأصل ، حيث كافة النظم الحاكمة لم تنشأ من نظريات معرفية ، بل من ممارسات فوضوية تطورت مع الزمن ، وتأهلت بالقدرة المميزة للانسان على التعلم من الأخطاء 
أكثر منها إدراك علاقات الاشياء

هكذا ، ليس هناك شعب مثقف وأخر جاهل ، فالشعوب سواء في أن ينصب اهتمام غالبيتها على أمور المعيشة والرزق مع قدر معقول من الالمام بالعالم من حولهم ، والحري أن يُقال بأن هناك شعب ذا صفوة واعية قادرة على ريادة تطوره المعرفي والحضري وعلاقاته بالأمم الآخرى .. ليس المقياس القدرة الجدلية القائمة على الاطلاع الواسع ، بل القدرة الفاعلة على تطوير البنى التحتية والعمران والإدارة المدنية وتكوين هيكلية سياسية تعبيراً عنها

الفوضي هي حالة شعورية أكثر منها عقلية أو أخلاقية ، تؤدي الى ثلاث ويلات:
أولاً: اضطراب رؤية المسار وأهدافه ، والاستغراق في تفاصيل الإثارة
ثانياً: استنزاف الطاقة في مشاريع تسودها العشوائية التي تؤدي لإطالة دورة الأحداث
ثالثاً: هدر الامكانية من خلال نقض بنيانها ، وفقدان القيمة بالشغب والانتقام المتبادل
ويتساوى ويتشارك في الفوضى كل من النظام الحاكم والمعارضة على حد سواء

مما لا شك فيه أن فوضى النظام الحاكم لا بد وأن تكون نتاج الأرث الحضري أكثر منها خطة عمل لمشروع سياسي .. الفوضي التي يمارسها دونالد ترامب تمثل الإرث الحضري لقطاع عريض من الشعب الامريكي الذي تنتهي معارفه عند العلامات التجارية المهيمنة وبرامج الاعلام المحلية وصلوات الآحاد .. ومثلها الفوضى التي يمارسها الكثير من الزعماء الأفارقة الذين يمتهنون الرقص والقوة والثروة .. وكذا اللامبالاة التي يتعلمونها من ذكور الغابة القوية التي لا تعبأ بمناوشات الذكور الشابة ، مالم يمسوا الإناث .. هكذا يمكن فهم التراجع المعرفي في بلدان الفوضى


لا بد من الاشارة بأن مبعث فوضى الرفض يأتي من نكوص النظام الحاكم عن العهود التي قطعها للجماهير ذات يوم ، والتي عادةً تكون المشاريع الفُضلى في المشاركة والعدالة والتنمية ، ومما لا شك فيه أن الفساد بأنواعه هو رحم التدهور السياسي ، ومؤشره صلاحيات الأجهزة الأمنية مقابل تدني أداء الأجهزة المدنية ، فضلا عن اضطراب مؤشرات التضخم والانتاج والتبادل ، بالاضافة لولادة طبقة مخملية .. ولعل كثير من البلدان الأسيوية تتميز في تآخي الفساد مع التنمية مثل أندونيسيا والهند وماليزيا ، بل سنغافورة تتفوق اقتصادياً برغم سطوة منسوبي العائلة الحاكمة

لعل الفوضى بالضرورة مرادفة للثورة ، بل ومعلم مشروع لها ، حيث لابد من خلخلة النظام القائم بغية استبداله بأخر ، وقد يكون هذا الأخر فوضوياً كذلك في غياب التدبير ، وبينما تقتضي الخلخلة نقض القواعد والأوصال وعلى رأسها البنية التحتية بدءاً من غلق الطرق ، فإن الثورة تقتضي التمويل بالشهداء ، أو كما قيل بأن تربة الأوطان لا ترويها إلا الدماء

عادة تبدأ فوضى الرفض بمزاجية تغلب عليها السخرية ، ثم تتطور الى التحدي ، وتنتهي بالعنف المتبادل ، وبرغم شعارات السلمية واللاعنف ، فإن أفعال التخريب واردة وطبيعية ، حيث تجتذب الاحتجاجات أفراد من الهامش وقاع المجتمع ، بكم ثقل الغبن والقهر والحرمان لديهم .. وكما تجتذب الاحداث من هم فريسة الفقر والبطالة والحرمان ، فإنها تعبئ جنود الدرك والأمن الذين في أغلبهم نتاج ذات الطبقات المطحونة ، بمفردات العنف والتشدد والأوامر العسكرية .. ويتميز العالم الثالث بأن فساد النظام يفرز مليشيات مدنية نفعية ، تؤمن قطعياً بالحفاظ عليه من خلال أيدولوجيات غالبيتها العصبيات العرقية أو الدينية ، وأحياناً السياسية مثل كوبا وكوريا والصين وروندا والخمير

وبرغم وجود المشروع السياسي الاصلاحي ذو القواعد الجماهيرية ، فإن الفوضي قد تبزغ في الثنايا على نحو مثير يؤدي للتصعيد مع قوى الأمن والنظام العام ، مثال الأحداث الأوربية في الشهور الأخيرة ، وبالتأكيد ، فإن غياب المشروع وأهدافه وقياداته يحكم على الأحداث بأن تكون فوضوية على نحو واسع ، وبحجم الفوضي يكون حجم غموض مستقبلها

وتتنبأ المدينة الفاضلة بأن تبذل قيادات المشروع الاصلاحي الجهد الكبير للتوفيق بين المشاعر والحكمة والأخلاق إدراكاً منها لحجم الأمنيات لدى الطبقات الوسطى والألام لدي الطبقات الشعبية ، وكذلك المنطق اللازم للبناء المؤساساتي وأليات الحكم ، ودون غض البصر عن حوكمة الاعلام والدعايات بما لا يفض التوازن الحرج بين الفئات الشعبية والمصالح الاقتصادية والعلاقات الدولية 
ولعل الأمر جد مثير ومتغير على أرض الواقع ،

في سياق الفوضى لا يهم من يفوز ومن يسقط ، فالفوز الحقيقي هو الفوز على الفوضى بكل الاثارة فيها ، والسقوط الحقيقي هو السقوط في براثنها الخادعة والبراقة

No comments:

Post a Comment