Saturday, September 21, 2024

تعلمت الإنسانية بعد اﻷربعين



حكى الشاعر والأديب الكبير محمد الفيتوري
(لست أعتقد أنه الكاتب أو صاحب القصة ، فهو ليس جعلي بل فوراوي)

تعلمت الإنسانية بعد اﻷربعين من عمري، فلا تكن مثلي ولا تكن انطباعيا

أحد إخوتنا الأحباش درجت علي أن أحلق رأسي في صالونه، منذ أن أتيت ل "ود مدني" ولأكثر من عامين، وقد شدَّني بكثرة إحترامه لي وتقديره وتدليلي كلما ولجت صالونه وجلست أمامه علي كرسي الحلاقة، عِلماً بأنني لا أدفع له سِوَي (مَدَّتْ المِزَّيِّن) كما نسميها في أدبنا الشعبي المحلي (ردئ الصُنْع)

وفي كثير من الأحيان كنت أتساءل عن لِماذا يعاملني هذا الحبشي، بكل هذا الإحترام والتقدير؟
وهو يعلم بأنَّ فعله لا ولن يجد طريقاً لقلبي الملئ بالعزة والكبرياء..كنت أنظر له دائماً بتعال وترفع واحتقار وأعتبر مايقدمه لي بمثابة (حقي عليه) وفي نفس الوقت هو (واجبه) الذي ينبغي أن يقوم به، وكنت أنظر لكل مايضعه من رتوش وديكورات وشكليات علي وجهي علي أنَّه مجرد (كِسِيير تلج) لا غير، وأعانني علي هذا الفهم تلك الثقافة البِدائية الساذجة.. ثقافة الإعتداد بالذَّات البليدة والنتنة التي أودعتها في مواعيني القبلية النتنة (دارجعل) التي تجري دمائها في عروقي بألوان ومكونات شتَّي، كدماء الأباطرة والقياصِرة والمِلوك دونما فعل مني ولا جهد
وأنظر لنفسي دائماً بأنني ومنذ المِيلاد، وُلِدت عزيزاً وإن كنت وضيعاً، وولدت كريماً وإن كنت بخيلاً، وولدت رفيعاً وإن كنت دنيئاً وتافهاً، وولدت لأدوس علي مكارم الأخلاق بجهلي ودونيتي دونما أدني شعورٍ بالذنب

داومت علي زيارة ذلك الحبشي لأكثر من عامين، دونما أن تجد إنسانيته وأخلاقه الرفيعة وتعامله الحضاري معي أيِّ إحترام أو تقدير أو تقييم، حتي دعاني ليلة أمس وبكل (أدب) لحضور إحتفال (أسرته) برأس السنة الحبشية

ترددت بادئ الأمر ظنَّاً مِنِّي وأنا المك نمر، أنَّ الرجل له حاجة عندي ويريد أن يغلفها ببعض المقدمات والرتوش .. لكنني في النهاية وبعد إلحاح منه وإصرار وعدته بالمجئ، وكنت غير مهتم بالإيفاء بوعدي، ولكنَّ فِعْل هذا الشاب الراقي معي جعلني أُلَبِي الزيارة دونما وعَييْ مِنِّي أو إدارك.. وهناك في منزلهم الكائن بحي الحِلَّة الجديده، دخلت عليهم في الموعد المحدد، وفي النفس عِزَّة وكبر وعجب، وفي بداية جلوسي معهم، كانوا يتحدثون فيما بينهم بالأمهريَّة التي لا أفهمها، فطلبت منهم أن يتحدثوا بالإنجليزية أو العربية حتي أكون معهم في دائرة الحديث، فأومؤوا برؤسهم موافقين

وبدؤوا الحديث بالعربية الفُصْحَّي وتغَنَّوا بها بلكنة رائعة وجميلة وتطريب عالي وإشباع للصوت لم أسمعه حتي في غِناء أبي داؤود، غنوا لإبراهيم الكاشف (رحلة بين طيَّات السِحاب) و(إنت وأنا)،وغنوا لسرور (قائد الاسطول) وغنوا لكاظم الساهر (ضُمِيني) وغنوا لفيروز (شُفت البحر) ومن بعد هذا إنتقلوا لِلُغَناء باللغة الإنجليزية التي أعرفها فجعلوني بينهم كالأطرش في الزَّفَّة، غنوا لِــ دَيون سارلي (الأمطارالمتساقطة) ولــ كرستيان ماكمان (تراتيل الفجر) ولــفرقة البِييتل (بياض الأشرعه) ولكرستوفر داسلي (العِشق الإلهي) ولِمايكل جاكسون (يوم جميل)،ثم إنتقلوا للفرنسية وغنوا وتحدثوا بها وانا خارج السِرب تماماً وهائمٌ بينهم ومشدوه بهذا الفن والجمال، ثمَّ بدأ التعارف باللغة العربية الفُصْحي، لأكتشف بأنَّ حلَّاق رأسي طبيب بشري يحمل درجة الماجستير في طب النساء والتوليد، وكان يعمل طبيباً في مدينة كسلا حتي أوقفته السلطات الأمنيه بدعوي أنه معارض سياسي لدولة صديقة، ولا يحق له ممارسة مهنة (طبية) إلَّا بموافقة المجلس الطبي، وعندما ذهب إلي المجلس الطِبِي وفحص شهاداته، أوقفه عن العمل بدعوي أنه إختصاصي ولكنه لا (يجيد استيعاب لغة المريض)، ومنذها دخل هذا العِالِم الطبيب النِحرير، عَالَم المِهَن الهامشية لإكتساب قووت 
عياله

علماً بأنَّ من كنت في حضرتهم هم أسرته الصغيرة المكونة من زوجته (آميل) والتي عندما
 استقبلتني بكل حفاوة والإبتسامة ترتسم علي شفتيها، كنت أنظر إليها علي أنها (مُومس وبنت شوارع) فقط لأنها حبشية، لاكتشف من خلال التعارف معها بأنها مهندسة زراعية وعضو في اللجنة الدولية لهندسة النبات الوراثية لشرق ووسط إفريقيا لأكثر من سبعة سنوات، وتجيد التحدث بأربعة لغات من بينها الصينية، وتتقن كل لهجات أثيوبيا، وشقيقته الحسناء (نيبيين) طبيبة تحمل درجة البكالريوس في الطب من جامعة أثيوبية، وتعمل في السودان ترزية (لتخييط ملابس الاثيوبيين الشعبية) وتجيد ثلاث لغات، ووالدته التي كانت تعِدُّ لنا الطعام وتبتسم في وجهي كلما دَخَلَت أو خرجت، كنت أنظر إليها علي أنها (قوادة) حبشية، اكتشفت أنَّها باحثة في التراث الإفريقي، وتحمل درجة الدكتوراه في الفلكلور من إحدي الجامعات الأثوبية، وكانت تعمل مُحاضرة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة لأكثر من عشرة سنوات، وبناته الثلاثة اللأئي كُنَّا يتغنين بكافة اللُغَّات، وفي كل ساعة يخرجن علينا بلِباس قوميَّة معينه في إثيوبيا..هُنَّ يدرسن في مرحلة الأساس بمدارس ودمدني المختلفة

هكذا كان حَلَّاقِي (ْالحبشي) تِسْفَاااي، والذي إضطر لتغيير اسمه في السودان لــيصبح بقدرة قادر إبراهيم (الخليل) لتسهيل تعامله مع السودانيين عُزَاز الأنفس خلدت في أكثرهم القبلية والجهوية النتنة، هكذا كان يتدفق وأفراد اسرته، عِلماً وثقافة وإنسانية ورُقي وتسامح مع الآخر، وتعايش وتَقَّبُل لأقدار الحياة وظروفها الغريبة والعجيبة وهكذا كنت أنا الجعلي الكِناني القرشي الأزهرالأمهر الألمع الأعلم الأفهم، ذِقَّاً مُنْتَفخاً بأمجادٍ من نسج خيال قبيلتي أقعدتني في سِنٍ مُبكرة عن الإقبال علي نفسي لأعلمها واستكمل فضائلها، وكفتني متاعب البحث عن ذاتي وعن تحقيق مقصد الله في خَلْقي وفي أن أكون إنساناً عَالِمَاً ومُهذَّباً وخلوقاً ومتواضعاَ مع أبناء البشرية جمعاء

وأخيرا أحبتي نصيحتي لكم أبناء وطني الكرام اخرجوا من دائرة الأنانية والقبلية النتنة والجهوية وعزة النفس التي ملؤها الغرور ولبس شيطاني ولا يكون أحدكم بتاع ( ناسات) كونوا إنسانيين فالإنسانية السمحاء هي ضمير الحق. فكانت الإنسانية مطية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. لقلوب الناس. (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) صدق الله العظيم

وشكراً لك دكتور تِسْفاي علي هذا الجمال والسِمُو والتواضع والتحية لكل عظيم في ثوب متواضع جميل

فالقبليه . العنصرية. الكبر . التعالي الفوقية
ليست من الإسلام بشيء

No comments:

Post a Comment