Sunday, August 6, 2023

بركة خان والقبيلة الذهبية

 


بركة خان والقبيلة الذهبية .. حفيد جنكيزخان وحاكم أراضي روسيا وأوكرانيا ...
في القرن الـ 13 الميلادي بدأ الزحف المغولي الهائل وكأنه سيضع نهاية للمدن والحواضر الإسلامية كافة، فبعد أن سقطت الدولة الخوارزمية التي حكمت أراضي شاسعة في بلاد وسط آسيا والقوقاز وفارس، تبعها سقوط بغداد الدموي والسريع عام 656هـ/ 1258م وسقوط الخلافة العباسية معها، ثم تلا ذلك سقوط أغلب مدن الشام وفلسطين.
لكن التمدد المغولي سرعان ما انقلب على عقبيه، ليشكل واحدة من أكبر مفارقات التاريخ في العصور الوسطى -فقد تحالف حفيد إمبراطور المغول جنكيزخان (1165-1227م) وابن عم خلفه هولاكو خان- مع سلالة المماليك البحرية في مصر (تعود أصولهم أيضا لقبائل أتراك القبجاق نفسها من آسيا الوسطى) ليضع ذلك التحالف نهاية زحف مغولي كاد أن يكمل طريقه إلى شمال أفريقيا والجزيرة العربية وحتى أوروبا.
تمثل قصة بركة خان زعيم القبجاق وخانية (إمارة) القبيلة الذهبية، تحديا لكل الصور النمطية التي ارتبطت بالمغول وسلالتهم، إذ يوصف الرجل بأنه مؤسس الوجود الإسلامي في بلاده، فقد شرع في تكوين حاشية إمبراطورية اعتمدت بشكل كبير على مسؤولين وقادة وقضاة وأئمة مسلمين، مما جعل ثقافة الرعايا المسلمين سائدة في بلاط إمبراطوري كان قبل سنوات قليلة فقط أكبر تهديد لاستمرارية المجتمعات الإسلامية وحواضرها المزدهرة في قارات العالم
شملت أراضي خانية القبيلة الذهبية مساحة شاسعة امتدت عبر خراسان وإيران والقوقاز والأناضول، وبدأ بركة خان نشاطه ضد دولة الإيلخانية التي أسسها ابن عمه مما جعله في تحالف مع المماليك، ونتيجة لذلك جاء بعض علماء الدين من الأراضي التي غزاها هولاكو إلى ولاية القبيلة الذهبية وتم قبول الإسلام -الذي عرف سابقا عبر التجار- في البلاد بشكل كبير.
صعود وهبوط الخانية الذهبية...
شكلت خانية القبيلة الذهبية الجزء الغربي من الإمبراطورية المغولية، والتي ازدهرت من منتصف القرن الـ 13 حتى نهاية القرن الـ 14، وكان شعب القبيلة الذهبية مزيجًا من الأتراك والمغول ورعايا آخرين، وكان المغول يشكلون عمومًا الطبقة الأرستقراطية، بحسب الموسوعة البريطانية.
وأصبح الجزء الغربي من إمبراطورية جنكيز خان هبة لابنه الأكبر جوتشي الذي لحق بأبيه عام 1227، وبعد وفاته وسع باتو ابن جوتشي أراضي بلاده في سلسلة من الحملات العسكرية التي تضمنت الاستيلاء على مدينة كييف (العاصمة الأوكرانية حاليا) عام 1240، وفي ذروة توسعها امتدت أراضي القبيلة الذهبية من جبال الكاربات في أوروبا الشرقية (تقع بين التشيك وبولندا وسلوفاكيا والمجر الحالية) إلى سهول سيبيريا (شرق روسيا الحالية) وإلى الجنوب أصبح البحر الأسود وجبال القوقاز وأراضي سلالة الإيلخانية المغولية في بلاد فارس حد خانية القبيلة الذهبية الجنوبي.
أسس باتو عاصمته الإمبراطورية، ساراي باتو، على الجزء السفلي من نهر الفولغا. تم نقل العاصمة لاحقًا إلى أعلى المنبع، سراي الجديدة التي بناها بركة خان بعد توليه العرش 1255م بعد فترة من رحيل شقيقه باتو.
قام بركة خان بتوحيد القبيلة البيضاء والزرقاء كجناحين لإمبراطورية واحدة تسمى القبيلة الذهبية، وأصبح أول خان عظيم لخانية القبيلة الذهبية وأعلن سكان مدن كبرى مثل بُخارى وسمرقند ولاءهم له، وشكل صعوده تغييرا جذريا لخرائط العالم الإسلامي السياسية والإستراتيجية بعد كارثة الغزو المغولي، ووفر كذلك رافعة معنوية لسلسلة من الإمبراطوريات الإسلامية اللاحقة مثل التيمورية والصفوية والعثمانية ومغول الهند وأيضا الأمراء التتار.
وغير اعتناق الإسلام من مغول القبيلة الذهبية، وساهم في حركة التحضر والاستقرار وتعمير المدن، ورفع المستوى الثقافي لمدنهم التي كانت عامرة بالعلماء والفقهاء والأدباء والمثقفين، والمساجد والمدارس والزوايا التي كتب عنها الرحالة العرب وبينهم ابن بطوطة.
ولم تقتصر العلاقة بين الدولتين، الذهبيَّة والمملوكيَّة، على التحالف العسكري، وإنما تعمقت بفضل التبادل التجاري الهائل ودبلوماسية الهدايا، وساهم الصناع والحرفيون والعلماء الذين أرسلهم مماليك مصر إلى الخانية في تطور الخانية التي اكتسبت معالم حضارية على نهر الفولغا متأثرة بثقافة البحر المتوسط المملوكية.
وبعد رحيل بركة خان شهدت الخانية حقبة جديدة من النهضة بقيادة أوزبك (1312-1341) وبينما ركزت القبائل التركية على تربية الحيوانات في السهوب الأوراسية، كان رعاياها من السلاف الشرقيين والموردفنيين واليونانيين والجورجيين والأرمن يدفعون الجزية، وحصل الأمراء الروس، ولا سيما أمراء موسكوفي، على مسؤولية تحصيل الضرائب المحلية، بينما قامت القبيلة الذهبية ببناء شبكة تجارة واسعة مع شعوب البحر الأبيض المتوسط​​، ولاسيما الحلفاء في مصر المملوكية وجنوه الإيطالية، بحسب الموسوعة البريطانية.
كان وباء الموت الأسود، الذي حدث بين (1346-1347) وقتل خليفة أوزبك، بمثابة بداية انحطاط الخانية الذهبية وتفككها، إذ حقق الأمراء الروس انتصارًا بارزًا على القبيلة الذهبية عام 1380، لكن الأخيرة عادت لتنتصر على الروس وتحرق موسكو انتقاما عام 1382 وتستعيد نفوذ خانية القبيلة الذهبية على الروس.
وقد دمر حلفاء القبيلة الذهبية بقيادة تيمور لنك أراضي الخانية التي غزوها أواخر القرن الـ 14، وخربوا ساراي بركة، وجرى ترحيل معظم الحرفيين المهرة بالمنطقة إلى آسيا الوسطى، وبالتالي حرمانها من تفوقها التقني على موسكوفي الروسية.
وفي القرن الـ 15، تفككت الخانية الذهبية إلى عدة خانات أصغر، أهمها خانات القرم وأستراخان وكازان. تم تدمير آخر بقايا القبيلة الذهبية على يد خان القرم عام 1502، وتوثب الروس للانعتاق من هيمنة الخانية الذهبية منذ نهاية القرن الـ 14، ليستمر الترابط بين تاريخ خانية القبيلة الذهبية والمواجهة مع الروس حتى تفكك الخانية وانقسامها وسقوط آخر بقاياها (خانيتي القرم والقازاق) عامي 1783 و1847م على التوالي.
التجارة والازدهار
اعتبرت "الخانية المغولية" بمثابة العقدة المركزية في الازدهار التجاري الأوراسي (أوروبا وآسيا) في القرنين الـ 13 و14، وكانت قناة للتبادلات الفكرية والتجارية عبر آلاف الأميال، بحسب تقرير سابق للجزيرة نت.
وبنظامهم السياسي الفريد -وهو ترتيب معقد لتقاسم السلطة بين الخان والنبلاء- تمت مكافئة الإداريين والدبلوماسيين الماهرين، وتعزز نظام اقتصادي حيوي ومنظم ومبتكر.
ومن ساراي (عاصمة القبيلة الذهبية والمملكة المغولية) التي وصفها ابن خلدون بأنها من أجمل المدن، فهي "مليئة بالناس، والبازارات الجميلة والشوارع الواسعة" والتي تقع على نهر الفولغا السفلي جنوب روسيا الحالية، قدمت الخانية المغولية نموذج حكم لروسيا، وأثرت على الممارسات الاجتماعية وهيكل الدولة عبر الثقافات الإسلامية، وقدمت نظريات وأفكارا حول العالم الطبيعي، ونموذجا للتسامح الديني، وحكمت معظم روسيا وكذلك أجزاء من سيبيريا والبلقان وشمال آسيا الوسطى والقوقاز.
وإذ تبنى باتو خان سياسة التسامح الديني تجاه رعايا الخانية الذين شملوا خليطا من أعراق وشعوب وثقافات متعددة، جعل بركة خان شقيقه والحاكم من بعده الخانية دولة إسلامية آسيوية كانت مدنها قبلة للتجار والعلماء، الذين وفدوا من شتى أنحاء العالم الإسلامي وأسهموا بشكل رئيسي في اعتناق الخانية الإسلام وبروز اسم الخليفة العباسي على العملات المتداولة.
كان لدين الإسلام تأثير كبير على ولاية القبيلة الذهبية على المستويات السياسية والاقتصادية ومستويات الدولة. ومن الناحية الاقتصادية، وجد الإسلام من خلال التجار المسلمين الفرصة للانتشار في البلاد وجعل العاصمة سراي مركزًا تجاريًا مزدحمًا للغاية، بحسب دراسة للباحث في تاريخ المغول فاتح بوستانجي.
وقد أثرت المساجد والمقابر والمدارس النزل التي شُيدت في ولاية القبيلة الذهبية على الهيكل المعماري للبلاد، وأصبحت الدولة مركزًا للعلوم والآداب والمعارف، بفضل العلاقات المتطورة سياسيًا وثقافيا مع الدول الإسلامية المعاصرة لها.
المصدر : الجزيرة
الموسوعة البريطانية
مواقع إلكترونية

No comments:

Post a Comment