زوج من اجل اجاك الطويلة
عبدالعزيز بركة ساكن...
بعد ست سنوات من الحياة في مدينة الخرطوم والدراسة المتواصلة، عمدت أجاك للعودة الى مسقط رأسها في ابيرو، وهي قرية صغيرة تابعة لمحلية شويبت برمبيك ولاية البحيرات بجنوب السودان، وعلى الرغم من الانقطاع الطويل عن ابيرو، إلا أن أجاك مازالت تذكر كل شيء عن القرية، ولم تنس اللغة أو العادات والتقاليد، ومازالت تذكر جداتها وجدودها وأمهاتها جميعاً وكل من كان في القرية حين مغادرتها لها، وكانت اجاك من الجيل الجديد في القرية حيث أنها لم توشم في جبهتها بعلامات القبيلة، واحتفظ لها والداها بأسنانها الأمامية البيضاء المشعة، كلما لم تأت به معها مرة أخرى هو السكسك الذي يحيط بخاصرتها تلك الخرزات البيضاء والسوداء، حيث أنها أصبحت بدينة بعض الشيء ولم تتحمل ضغط الخيط على خاصرتها، لذا تركته في البيت بالخرطوم، لكن غير ذلك كانت أجاك كما هي، طويلة ممشوقة القوام مثل شجرة تك، سوداء البشرة ليست كقلب الأبنوس، بل مثل الليل ذاته، صدراء ناهد، لها أذرع طويلة ورقيقة، وعينان بهما نظرات حادة وثاقبة كعيني النمرة، ويجب أن يلاحظ شيء آخر أيضاً، أن أجاك لم تتزوج الى تلك اللحظة، وهي الوحيدة التي بقيت من بنات جيلها بغير زوج الى الآن، لربما شغلتها سنوات الدراسة الطويلة عن أسئلة الجسد، كانت أجاك فارعة القوام، سوداء كالليل لها ذراعان طويلان رقيقان، وعينان تشعان رغبة كعيني نمرة، وهذا مهم جداً، لأن أجاك سوف تقيم بعد قليل بعدد من الأبقار وفقاً لقوامها وجموح جسدها اللذان سوف يقرران من هو الزوج وكم هي الأبقار التي تستحق كمهر لها، وكيف أن أباها دووت يحبها أكثر من كل أخواتها، وأنها ما يفخر به وذلك واضح من الأغنية الخاصة التي يغنيها لها وحدها: اجاك يا بقرتي
اجاك يا بقرتي المقدسة
يا بنت عشب النيل
أجاك يا بقرتي.. أجاك يا بقرة عشب النيل جدها العظيم
لم تنس أجاك أن تستبدل ملابسها وهي تغادر شيوبت الى ابيرو، تخلصت من كل شيء. لفت جسدها الجميل الطويل بقطعة قماش زاهية الألوان وهي اللاوي أو الزي الرسمي لقبيلتها، عبارة عن ملاءة ينتهي طرفها الأعلى على كتفها الأيمن وتدور حول نصف الجسد بغنج غابوي مدهش، تظهر نصفه وتخفي نصفه، ليعلن النصف المخبوء عن النصف غير المحجوب، وهذا سره وسحره، اختارت جلباباً بسيطاً من الحرير الملون لم تكن له أكمام وعاري تماماً من الصدر، وهي أكثر ما يليق بجسدها من ملبس، فأجاك كغيرها من البنيات تعرف ما يليق بجمالها وما هو حري باثارة دهشة الرجال ودهشة أنوثتها هي أولاً، كانت في رفقتها أمها التي انتظرتها في شويبت منذ بداية الاسبوع لتصطحبها في رحلة بالأرجل الى القرية تستغرق الساعة في غالب الأحيان، عبر غابة سافنا غنية مستوحشة. انضم لركب المستقبلين رجال ونساء أقرباء والديها وعشيرتها، أجاك سوف تصبح أول طبيبة من ابيرو، وستظل الوحيدة التي تتمتع بهذا اللقب الى عشرة أعوام أخرى، كان هم أمها الوحيد أن تتزوج أجاك قبل كل شيء، ان تنجب أطفالاً يحفظون نسل الأسرة، وظلت طوال الأسابيع الماضية منذ أن سمعت بأن ابنتها في الطريق الى ابيرو، تتحف الشيخ بالهدايا لكي يقضي وقتاً أطول في طلب الزوج لابنتها من الجد الأكبر للأسرة، الذي هو عشب النيل. وكانت تعرف أن ابنتها سوف لا تتزوج بسهولة، لأنها طويلة وشديدة السواد وممشوقة القوام، يعني هذا ان مهرها قد يتجاوز الألف بقرة، وهذا غالباً ما لا يتوفر لشخص عادي. في الحقيقة كان هذا هم العشيرة الأقربين جميعاً، من أين لزوج بألف بقرة في وقت تهب فيه بقايا الحرب التي دارت عشرين عاماً في المكان، قضت على مراحات كثيرة من الأبقار وأضعافها من الإنسان، حتى لو شاء أن يبقى ديناً كثيراً عليه، حتى لو ساعده الأقرباء، ولم يتحدث شخص واحد عن خيارات أجاك، التي همست لأمها بأنها سوف تتزوج رجلاً من الخرطوم، ليس من الدينكا، بل هي الى الآن لا تعرف قبيلته، وأنه يعمل في الصحافة. طبعاً سألتها أمها عما هي الصحافة، فلم تستطع أجاك أن تجد لغة مناسبة لشرح الكلمة، لم تمانع الأم ولكنها فقط أكدت على عدد البقرات، لأن أبيها سوف يموت من الغبن اذا نقصت بقرة واحدة من الألف المتفق عليها كحد أدنى كمهر لبنت في طولها ولها ذراعان بهذا الجمال.
في الغد جاء كثير من الشبان من بعض القرى المجاورة وأقاموا حفلاً احتفاء بعودة أجاك رقصوا معها، وقفزوا في السماء محاولين تجاوز ذراعيها المرفوعين للأعلى، وغنوا لها وشبهها كل منهم بأجمل بقراته، وأعطاها اسمها، فكانت: كتنج، ولول، ونيانج، أكوي، يار، أكور، أين، وجنطوك، وابتهجت صاحباتها وغنين معها، وتقدم لها منقار للزواج، لمنقار زوجتان اخريتان، وقال أنه سيدفع ثلاثمائة بقرة عداً وحالاً، قالت أمها ان ذلك لا يسوي عدد الخرزات التي تزين عنق بنتها. تقدم اليها ملوال أجوك، وهو شاب وسيم من دينكا بور، له زوجة واحدة فقط وورث أبقاراً كثيرة وأطفالاً وامرأتين عن أبيه المتوفي. قال أنه سيدفع من أجل أجاك، خمسمائة بقرة، ومن ضمنها ثوره الخاص وهو مال لا يستهان به وتكريم مدهش، إلا أن أم أجاك قالت، ان ذلك المال لا يسوي قيمة الرحط الذي سوف يحيط خصر ابنتها الجميلة. وانها أحبطت في فتيان الدينكا وفشلهم في تكريم ابنتها بما يليق بطولها. واعتبرت هذا من علامات أن الدنيا تصير للفناء، وان الكون قد ينتهي قريباً طالماً كان هذا هو حال القيم والأخلاق. رفضت من تقدموا لها فيما بعد حتى قبل أن تعرف عروضهم المغرية التي جاءوا بها، واستفسرت مرة أخرى عن الزوج الذي حدثتها أجاك عنه فيما قبل، كم يمتلك من الأبقار وكم تمتلك أسرته ومن هو جد اسرته؟ قالت لها أجاك: انها لا تعرف شيئاً عن أسرته ولكنها متأكدة أنه لا يمتلك ولا عجلاً واحداً.. انه صحفي صحفي يا أمي.
حسنا دعينا نذهب مرة أخرى للشيخ، ليدعوا لنا جدك عشب البحر، ويسأله عن مقدار القرابين التي تقدم اليه من أجل أن يستجيب لحاجتك لزوج يجيد تقييمك ويعرف قدرك ولديه مال يمكنه من فعل ذلك. قالت أجاك أنها لن تفعل، فذهبت أمها وحدها، وذبحت دجاجات بيضاء ودجاجات سوداء كما طلب منها، وأقامت في خدمة الشيخ ساعة من الزمان، ووعدها بالخير.
ابيرو قرية صغيرة جداً، عدد المنازل بها لا يتعدى مائة بيت وبها أسر معروفة لم تنقص ولم تزد من أكثر من عشر سنوات، أي منذ أن انتهت الحرب الطويلة، كلها مبنية من أفرع الأشجار والبامبو والعشب الموسمي. تقيم الأسر في تجمعات سكنية يخصص جانب منها للأبقار والجانب الآخر لسكني الإنسان. وفي مثل هذا الوقت، الصيف تكون الحياة أكثر سهولة والحركة ليس لها من معيق؛ لذا لم يستغرب الناس في القرية وفادة أشخاص من قرى بعيدة قد لا يعرفونهم ولم يشاهدوهم من قبل، والرجل الذي عرف نفسه بطون، ذو الصوت الجهوري، كان واحداً ممن أتوا من بعيد لخطوبة أجاك، ونسبة للطريقة الشاذة التي قدم بها نفسه قالت أجاك عنه في نفسها: انه موهوم.
من الرسومات والوشمات التي في بطنه وعلى جبهته وكتفه، عرف الجميع أنه يكمل الآن عامه الأربعين. وأوضح العقد الذي يلتف حول عنقه وعلى ساعديه انه قتل نمراً أو نموراً كثيرة. لم يندهش الناس كثيراً لعريه فلقد كان عارياً تماماً يطلي جسده بالرماد، حتى لا يكاد الناس أن يروا من لونه الطبيعي شيئاً، شعره مصفوف جيداً ومسقي ببول الثيران، عن طريق الطبل التي جاء يحملها على كتفه مع حرابه، أيقظ القرية كلها ذات صباح باكر، وغنى بصوت قوي كأنه زئير الأسد، ولما هب الناس اليه رقص قافزاً في السماء عشر قفزات، كان طويلاً ونحيفاً، وقال: أنا اسمي طون قوقريال طون، وانظروا الي تلك السحابة، ما هي إلا أغبرة حوافر الأبقار التي أتيت بها مهراً لأجاك، سوف لا تجدون مكاناً تحفظونها فيه بالقرية، ستصلكم بعد قليل.
قالت أجاك أنها لن تتزوجه ولو أنه جاء بأبقار العالم كلها.. أكدت لها الأم أنها سوف تتزوجه رضيت أم لم ترض، لأن أمها اذا كانت قد رفضت الزواج من والدها ما كانت هي على قيد الحياة الآن، وان مهرها ملك لأسرتها، وليس ملكاً لها هي. وان والدها يحتاج لخمسين بقرة منه لسداد متأخر صداق أمها، وأن اخوانها الخمس يحتاجونه أيضاً لكي يتزوجوا به، وأن كثيراً من الأقارب ينتظرون نصيبهم من هذا المهر، وأنها لا ترى شيئاً يعيب طون قوقريال طون سوى أنه فخور بنفسه أكثر مما يجب، وكان عليه أن يستر عورته بجلد النمر الذي قتله، وألا يثير كل تلك الضجة بصوته المرعب والطبل القبيح الذي يعلقه على كتفه، غير ذلك لا يعيبه شيء.
عندما انشغل الناس بعد الأبقار، وصنع الزرائب، واقتراح القسمة، هربت أجاك لتحتمي بالغابة. كانت تجري بأسرع ما تستطيع، وعندما توغلت في الدغل شاهدته يجري خلفها، كان سريعاً كما الريح، أمسك بها حملها على كتفه ومضى بها في خطى سريعة ناحية النهر، وهو يغني بصوت أجش ماكر.
الاستاذ / عبد العزيز بركة ساكن