Saturday, December 13, 2025

سد النهضة - الفاعلية قبل الآخيرة

 


في اعتقادي كـ مشاهد ومتابع خارج دوائر التأثير والانتفاع:
سائر الأطراف قد سعت لبناء قضية وطنية، تستدعي تجييش المجتمع، من الفرقة والتشرذم.
المؤسف أن كافة النخب على امتداد حوض النيل الأزرق قد انجرفت، أو جُرِفت، للمشاركة في لي الحقائق والوقائع المتعلقة بالخلاف، الذي تحول من حسابات التخزين، إلى جدولة التخزين، إلى التشكك في التخزين، إلى تهديدات التخزين، ثم إلى استعراضات وتكتلات القوة.
وبرغم أن المنطق يتحدث عن مشاركة الانتفاع، فإن الغالب كان على حصر الانتفاع، وبين هذا وذاك كراسات عن التاريخ والجغرافيا والجيولوجيا والري والزراعة ومنشأت التكنولوجيا الجديدة.
سوف تنتهي هذا الزوبعة مع تطور الأحداث في المحيط والمنطقة، فلقد ولت أفكار التجييش، واتفق الجميع على استبدالها بأفكار البيتكوين، لكن لابد من بناء سردية مضطردة لكي تتناسب مع تهدئة الغلو القومي الذي ملأ كافة الساحات.


بعض فوائد سد النهضة للسودان وفق دراسة معهد ماسشتوشس للتكنولوجيا (MIT) الأمريكي.
1. يوقف الفيضانات المدمّرة على ضفتي النيل الأزرق والنيل الرئيسي.
2. يتيح 3 دورات زراعية سنويًا بدل دورة واحدة فقط.
3. يرفع إنتاج الكهرباء من السدود السودانية الحالية.
4. يوفّر تغذية ثابتة للمياه الجوفية.
5. يجعل الملاحة في النيل منتظمة طوال العام.
6. يحبس أغلب الطمي الضار، ويطيل عمر سدّي الروصيرص ومروي.
7. يمنح السودان طميًا نقيًا وخصبًا للأراضي الزراعية.
8. يزيد حصول السودان على كهرباء إثيوبية رخيصة بدل بناء سدود جديدة مُكلفة.
9. يمكّن السودان من استخدام أكثر من 6.5 مليار م³ من مياهه التي كانت تذهب لمصر، ما يعزز الزراعة ويقربه من أن يصبح “سلة غذاء العالم”.
10. يتيح استخدام الملاحة النهرية داخل السودان لأول مرة، ويفتح بابًا لمشاريع سياحية جديدة.

Friday, December 12, 2025

هرم المعرفة DIKW Model

 

تعرض الصورة نموذجًا فكريًا عميقًا يُعرف بـ هرم المعرفة (DIKW Model)، وهو اختصار لـ:
Data – Information – Knowledge – Wisdom 
ويُقصد به فهم كيف ينتقل الإنسان من مجرد امتلاك بيانات خام إلى الوصول للحكمة والقدرة على اتخاذ قرارات صائبة. هذا النموذج يُستخدم في الإدارة، الذكاء الاصطناعي، علم البيانات، القيادة، واتخاذ القرار.


1) البيانات (Data): أين تبدأ الرحلة؟
البيانات هي النقاط الخام… الأرقام، الكلمات، الإشارات، والحقائق المنفصلة. هي إجابات لأسئلة بسيطة: من؟ ماذا؟ متى؟ أين؟
مثال:
قائمة بعدد الموظفين، معدلات الحضور، الرواتب، التواريخ… كلها بيانات بلا معنى إذا لم توضع في سياق.
البيانات مثل الحروف في اللغة؛ لا تكوّن جملة إلا بعد ترتيبها.

2) المعلومات (Information): عندما تبدأ الصورة تتضح
تتحول البيانات إلى معلومات عندما نضعها داخل سياق. هنا يبدأ الفهم: نربط، نرتّب، نقارن، ونفسر.
مثال:
بدل أن تكون لديك 200 رقم عشوائي، تصبح “معدل الحضور 92% هذا الشهر”. صار هناك معنى. المعلومات تجيب عن: من؟ ماذا؟ متى؟ أين؟ لكنها لا تزال لا تخبرك كيف أو لماذا.

3) المعرفة (Knowledge): عندما نفهم كيف تحدث الأمور
المعرفة تأتي من تحليل المعلومات وربطها بالتجربة. هنا تبدأ الإجابة على سؤال: كيف؟
مثال:
بعدتحليل معلومات الحضور، تكتشف أن الانخفاض سببه ضغط العمل أو ضعف بيئة الوظيفة. أو أن زيادة الاستقالات مرتبطة بقلة التقدير أو عدم وضوح المسار الوظيفي. المعرفة هي القدرة على الاستخدام الفعّال للمعلومات.
هي بداية اتخاذ القرار.

4) الحكمة (Wisdom): لماذا نفعل ما نفعل؟
أعلى مستوى في الهرم، حيث تتحول المعرفة إلى بصيرة. الحكمة تعني فهم الأسباب والغايات، وربط كل شيء بالأهداف الكبرى.
هنا تُطرح أهم الأسئلة: لماذا؟ ولأجل ماذا؟
مثال:
بدل أن تكتفي بمعرفة أسباب الاستقالات، تبدأ في بناء استراتيجية شاملة للاحتفاظ بالمواهب، وتحسين القيادة، وربط الثقافة بالغايات الاستراتيجية. هنا أصبح القرار ناضجًا وليس مجرد رد فعل. فالحكمة هي القدرة على اتخاذ قرارات تخدم المستقبل لا الحاضر فقط.

ختاماً:
البعدان المحوريان في الصورة: الفهم والسياق
السهم الأفقي يمثل الـ Understanding، الفهم كلما تحركت يمينًا، ازداد فهمك للعلاقات والمعاني.
السهم العمودي يمثل الـ Context، السياق كلما ارتفعت للأعلى، ازدادت قدرتك على وضع الأمور في إطارها الصحيح.
بدون فهم وسياق، لا يمكن الوصول للحكمة.


مصر بالتليسكوب أم بالميكروسكوب

 

نجوى عسران

‏لماذا مصر؟
عشت في دول كثيرة
والدي (الله يرحمه) كان ديبلوماسي وعمل فترة في الامم المتحدة في جينيف.
فانا من مواليد كندا ( التي احمل جنسيتها إلى جانب جنسيتى المصرية) وذهبت إلى مدارس في إيطاليا وسويسرا وعندما تزوجت انتقلت مع زوجي إلى الكويت.
وفي فترة من حياتي كان لدي "خصام " - ليس خصومة- لكن خصام مع مصر.
كنت لا أتحمل صخبها وفوضويتها وقسوتها.
لا افهم موروثاتها وثوابتها وتقبلها للكثير من الأمور التي كانت بالنسبة لي ضد المنطق.
وكنت اكره كلمة "معلش".
ولا اتفهم طبيعة المصريين في اختلاق الحجج والأعذار لكل تصرف خاطيء.
وبطبيعة الحال لا يمكن أقود سيارة في شوارعها حتى لا اصاب بازمة قلبية
هكذا كنت أراها.
ضغط نفسي.
وعشت في دول كثيرة.
دول يحكمها القانون لا مكان للفوضى،
كل شيء له اطر وقوانين تحكمه.
دول مفيهاش "معلش."
في كندا انت تمشي حسب مجموعة من القوانين والإرشادات لا تستطيع ان تحيد عنها ولا تتمرد عليها، والا القانون الذي حماك هو نفسه الذي سيسلط عليك بلا رحمة.
في سويسرا انت جزء من "ترس" الساعة عليك ان تكون منضبطا تماما، لا مجال لك ان تتأخر ثانية او تسبق ثانية، حتى لا يختل ميزان الزمن. واختلال الميزان في سويسرا خطيئة لا تغتفر.
وفي دول الخليج بصفة عامة انت "وافد" لك ما لك وعليك ما عليك احترم نفسك يحترموك اغلط مع السلامة وخد الباب في ايدك.
ثم كبرت.
وبدات احاول ان افهم مصر.
ما هى ليست اختياري، في النهاية بالنسبة لكل مصري "مصر" سؤال اجباري لا تستطيع ان تتجاهله.
كانت بداية علاقتي الحقيقية مع مصر في عام ٢٠١٠،
قبل "ثورة يناير" بسنة - سنتها تم تعييني مديرة مكتب مصر لقناة cnbc عربية إلى جانب مكتب الكويت.
وقررت ان انزل من برجي العاجي واحاول ان افهم هذه البلد التي يطلقون عليها "ام الدنيا"، ربما لانها اقدم دولة في التاريخ - او هكذا ظننت.
واعتقد اني أدين كثيرا إلى الدكتور احمد زويل في نصيحة قالها في احدى المناسبات التي كنت حاضرة فيها . قال:
"مصر… إذا نظرت اليها بالميكروسكوب حتتعب اوي.. مصر لازم تراها بالتليسكوب حتى تفهمها."
وبدات ارى مصر بالتليسكوب.
رايت بلد كبير جميل يستوعب كل المتناقضات التي يمكن ان تتخيلها ولا تنخيلها.
رايت شعب صبور، مبتسم، ساخر ، متقبل، رحيم، غلبان قوي، فقير في ماله، غني في هويته.
رايت موروثات تعتقد انها بلا منطق، ولكن في الواقع هذا "اللا منطق" هو من حمل هذا البلد ليتجاوز ازمات ومحن وحروب، كان تطبيق المنطق فيها قد يدفعك إلى الجنون، ولكن اللا منطق هو نوع من البراجماتية يجعل اللا معقول مقبول.
وفهمت حكاية كان رواها لي احد المسئولين ، لا اعلم مدى صحتها ولكنها كاشفة: قال انه ايام الرئيس مبارك كانت مصر تعاني من ازمة مرورية حادة،
فطلبوا من البابان ان ترسل فريقا يدرس شبكة الطرق في مصر لتقديم حل للازمة.
وحضر اليابانيون وظلوا ستة اشهر يدرسون شبكة الطرق في مصر.
وفي نهاية الفترة قدموا تقرير:
We don’t know how you do it
But keep doing it.
لا نعلم كيف تفعلونها
ولكن استمروا فيما تفعلون!
انها عبقرية اللا منطق… وسخرية مصر اللا منطقية!
وكانت اكبر دهشة لي الاجانب الذين يعيشون في مصر. تجد الماني ( بلد العمل ) وسويسري ( موطن الانضباط) و خليجي ( عنوان الرفاهية) كلهم يعشقون عيشتهم في مصر.
يرون تناقضاتها مثيرة وفوضويتها حرية واللا منطق سر جمالها.
يرون شعبها دافيء ومنطقه الساخر يلمس لدى الكثير منهم جزء من إنسانية مفقودة ضاعت وسط القوانين والانضباط والرفاهية.
واخيرا فهمت لماذا مصر يطلقون عليها "ام الدنيا"، ليست لانها اقدم بلد، ولكن لانها ارحم بلد بعباد الله جميعا، تستقبل كل من لجأ اليها، وتحتضنه في وقت شدته وتسامح من يخطا في حقها وتتحمل الغبن والجحود .. قلب الام .. حنعمل ايه
وفهمت ان كلمة "معلش" هي طبطبة المصري لنفسه وهي اللي مكنته ان يبقى على وجه هذه الارض الاف السنين متحملا تقلباتها ومزاجيتها وجنونها.
وعرفت ان مصر لازم تأخذها كده كما هي، تفهمها وتحبها، او تفضل متعالي عليها، وبصراحة انت الخسران،
وادركت اني اتصالحت مع مصر اخيرا عندما قررت اني اطلع رخصة قيادة واقود سيارة في شوارعها.
معلش…وربنا يستر.


Sherif Mansour
حقيقي جدا،،، د. زويل كان شايف للصورة العامة،، وفاهم تعقيداتها ،، مصر… إذا نظرت اليها بالميكروسكوب حتتعب اوي.. مصر لازم تراها بالتليسكوب حتى تفهمها


الفوضى والفهلوة


لعل الصورة أعلاه (الجسر المسمى كوبري الزمر في الجيزة بالقاهرة) هو التعبير الأمثل والأصدق لأزمة مصر 2025 كما آراها، كـ زائر ومقيم ، يعرف عنها الكثير تاريخاً وجغرافية وثقافة.

هى أزمة قديمة حديثة، ولعلها اللاعب الخفي وراء كل الأحداث والانتصارات والكبوات. هي ترجمة فعلية لدورات الحضارة والتحضّر، بين الحلم والواقع والجهد ثم التطور والرخاء ثم الارتخاء والضعف.

متوالية ومعادلة الفوضى والفهلوة، بين اللانظام الذي أصبح نظاماً لكل شئ، وبين مهارات التحايل الايجابي والسلبي. حيث تبدأ بتحدي النظم التي رسمتها النُخب بأنواعها، وتنتهي باختصار الجهد المطلوب لتحقيق النتائج.

وبكم أن مصر دولة قاعدية في الشرق الأوسط، بكم تأثيرها على المحيط.



الفوضى

كلمة "فوضىعربية أصيلة من الجذر (فوض)، وتصف حالة غياب النظام والاضطراب، وتُشير في الأصل إلى حالة التساوي والتداخل والاختلاط، مثل أن يكون المال بينهم "فوضى" أي يتصرفون فيه دون تمييز، أو القوم "فوضى" أي لا رئيس لهم، وهي قريبة من مفهوم "المفاوضة" والمشاركة، لكن معانيها تطورت لتشمل غياب التنظيم، وتأثرت أيضاً بالكلمة اليونانية "Chaos" التي تعني الهاوية والفراغ البدائي

الأصل اللغوي العربي

  • الجذر:  ف و ض.
  • المعنى الأساسي:  تساوٍ واختلاط ومشاركة، وتصرف كل فرد في ملك الآخر.
  • أمثلة:
    • "أموالهم فوضى بينهم": شركاء يتصرفون فيها بلا ضابط.
    • "قوم فوضى": لا رئيس لهم، أو متفرقون.
  • الاشتقاق: من الفعل "فاوض" و"فوّض"، أي وكّل أو أناب، ما يدل على المشاركة وتساوي الحقوق، كما في "شركة المفاوضة"

التأثير اليوناني

  • كلمة "فوضى" باللغة العربية أُخذت وتأثرت بالكلمة اليونانية "Chaos" (خاوس)، والتي تعني الهاوية، الفراغ، الظلام، والفضاء قبل الخلق.
  • هذا المعنى اليوناني يصف الحالة البدائية للعالم، ويُستخدم اليوم لوصف الاضطراب واللايقين

خلاصة

أصل كلمة "فوضى" عربي أصيل يعني الاختلاط والتساوي وغياب الضابط، لكنها اكتسبت المعنى الشائع لـ "الاضطراب" بسبب تداخلها مع المعنى اليوناني لنفس المفهوم (Chaos)، خاصة في الفلسفة والميثولوجيا


.

الفهلوة

أصل كلمة "فهلوة" فارسي، من كلمة "فهلوي" أو "بهلوان" التي تعني الشخص البارع، الشجاع، أو واسع الحيلة، وتطورت لتشير في العامية المصرية إلى الذكاء والتحايل لـ"تدبير الأمور" بطرق غير تقليدية أو غير مباشرة، وقد تحمل معنى إيجابي (الشطارة والسرعة) أو سلبي (التحايل على القانون) حسب السياق. 

الأصل اللغوي والتطور:

  • الاسم الأصلي: الكلمة تأتي من اللغة الفارسية القديمة، حيث كانت تصف "البهلوان" أو "الفهلوان" وهو البطل، البارع، أو الماهر في ألعاب الخفة.
  • المعنى الأصلي: في الفارسية القديمة كانت تدل على الفصاحة والمهارة العالية والقدرة على الإنجاز، وكان الشخص الفهلوي شخصًا ذكيًا ومحترفًا.
  • التحول في مصر: مع مرور الوقت وفي اللهجة المصرية، تغير المعنى ليشمل القدرة على التكيف السريع وحل المشكلات، حتى لو تطلب ذلك التحايل أو التفاف على القواعد، مما أضفى عليها دلالات إيجابية (الحنكة) وسلبية (النصب أو "التذاكي"). 

 المعنى الحالي (المصري):

  • إيجابي: الذكاء الفطري، سرعة البديهة، والقدرة على إنجاز الأمور بمهارة حتى لو كانت صعبة ("شطارة").
  • سلبي: التحايل، التلاعب بالنظام، أو استخدام الذكاء للوصول للمكاسب بطرق غير مباشرة أو غير مشروعة.

Thursday, December 11, 2025

جامعات البنس الواحد



في منتصف القرن السابع عشر، كانت لندن تقف على عتبة تحول اجتماعي جذري. قبل وصول القهوة، كان النظام الغذائي الأوروبي يعتمد بشكل كبير على المشروبات الكحولية الخفيفة (مثل الجعة والبيرة) كمصدر آمن للسوائل، نظراً لتلوث مصادر المياه وعدم تطور أنظمة التنقية. هذا الواقع كان يفرض نمط حياة يتسم بالبطء والخمول النسبي، حيث يبدأ اليوم وينتهي بمشروبات مهدئة للأعصاب.

ولكن في عام 1652، تغيرت الكيمياء الحيوية للمدينة، حيث افتتح "باسكوا روزي" وهو خادم لتاجر بريطاني، كشكاً صغيراً لبيع القهوة. ورغم أن طعم المشروب الجديد كان غريباً ومرّاً للإنجليز في البداية، إلا أن تأثيره العقلي كان حاسماً: لقد منحهم "اليقظة والتركيز". وجد الموظفون والتجار والعلماء مشروباً يحفز الذهن بدلاً من تخديره، مما مهد الطريق لظهور مؤسسة اجتماعية فريدة عُرفت بـ "جامعات البنس الواحد".

 لم يكن المشروب فحسب ماساعد في ظهورها ، بل "القواعد" التي حكمتها. كانت الحياة في إنجلترا طبقية بصرامة، لكن المقاهي كسرت هذه القاعدة. بمجرد دفع "بنس واحد" عند الدخول، كان الزبون يكتسب حق الجلوس، وقراءة الصحف المتوفرة، والمشاركة في الحديث.
علقت المقاهي لوائح تنظيمية صارمة على جدرانها تنص على أنه: "لا يجوز لأي رجل، مهما كانت رتبته، أن يطلب مكاناً أفضل من غيره"، و "يُمنع القمار والمراهنات العشوائية". هذا المناخ خلق بيئة خصبة لتبادل المعلومات بين طبقات لم تكن لتلتقي أبداً في الخارج. فالأرستقراطي الذي يملك الأرض كان يجلس ويستمع لتاجر يملك السفن، أو لعالم يملك النظريات.

 تكاثرت المقاهي (التي وصل عددها للآلاف)، فبدأت عملية "تخصص" طبيعية ، حيث تحول كل مقهى إلى مقر غير رسمي لمهنة معينة، مما ساهم في تنظيم اقتصاد الإمبراطورية.

في مقهى "جوناثان" ومقهى "غارواي"، كان السماسرة الذين طُردوا من البورصة الملكية الرسمية بسبب صخبهم، يتخذون من هذه المقاهي مكاتب لهم. على طاولات "جوناثان"، كانت تُكتب قوائم أسعار الأسهم والسلع بالطباشير على الألواح، ومن هذا النظام العفوي وُلدت لاحقاً سوق لندن للأوراق المالية (London Stock Exchange) بشكلها المؤسسي.
في مقهى "إدوارد لويد" القريب من النهر، كان المشهد مختلفاً. كان المقهى يعج بقباطنة السفن وأصحاب البضائع. أدرك المالك "إدوارد" بذكاء تجاري أن المعلومة هي السلعة الأهم، فبدأ يصدر نشرة ورقية تسمى "أخبار لويد" تحتوي على تحركات السفن وأحوال الطقس. هناك، بدأ التجار الأثرياء يوقعون عقوداً لـ "تأمين" سفن بعضهم البعض ضد الغرق مقابل نسبة مالية، ليتحول المقهى تدريجياً وبشكل واقعي إلى مؤسسة "لويدز" العالمية للتأمين.

لم تكن المقاهي للتجار فقط. مقهى "غريسيان" كان المفضل لدى أعضاء "الجمعية الملكية" للعلوم. تشير السجلات التاريخية إلى أن إسحاق نيوتن وهالي قاما بتشريح دولفين على إحدى طاولات المقهى لإثبات نظريات علمية أمام الحضور. وفي الجانب الآخر، كان مقهى "ويلز" هو مملكة الشاعر "جون درايدن"، حيث كان الكتاب الشباب يذهبون هناك فقط للحصول على "رشة" (قبضة) من تبغ الشاعر الكبير كنوع من الاعتراف بموهبتهم الأدبية.

 عملت هذه المقاهي كشبكة إنترنت بدائية. في ذلك العصر، لم تكن عناوين البيوت واضحة أو مرتبة، لذا كان الرجال يستخدمون مقاهيهم المفضلة كـ "عناوين بريدية". يمكنك إرسال رسالة لشخص ما وتكتب عليها: "إلى السيد فلان، مقهى التورك، لندن"، وكان السعاة (Runners) يركضون بين المقاهي لنقل الأخبار العاجلة والرسائل، مما جعل المعلومات تنتشر في لندن بسرعة مذهلة تفوق أي مدينة أخرى في أوروبا.
لم يكن هذا الانفتاح ليمر دون قلق حكومي. في عام 1675، أصدر الملك تشارلز الثاني "إعلاناً بقمع المقاهي". كانت
 الحجة الرسمية أن المقاهي تلهي الناس عن أعمالهم، لكن السبب الحقيقي هو أن المقاهي أصبحت "برلمانات شعبية" تنتقد قرارات الملك بحرية. لكن الواقعية السياسية فرضت نفسها. ففي غضون أسبوع واحد، واجه الملك غضباً عارماً  من التجار والطبقة الوسطى التي يعتمد عليها اقتصاد لندن. تراجع الملك وألغى القرار، في إشارة واضحة إلى أن المقاهي قد أصبحت "مؤسسة" حيوية لا يمكن للدولة إلغاؤها.

كانت مقاهي لندن هي "المختبرات" التي نضجت فيها الرأسمالية الحديثة، والصحافة الحرة، والبحث العلمي. لقد وفرت البيئة المادية (طاولة، قهوة، وصحيفة) التي سمحت للعقل الإنجليزي بالانتقال من عزلة القرون الوسطى إلى تشابك وتعقيد العصر الحديث، مؤسسةً لثقافة الحوار العام التي ستصبح سمة الحضارة الغربية لاحقاً.

وهنا تكمن العبرة التاريخية الفاصلة. فالقهوة كسلعة كانت متاحة للكثير من الأمم، لكن العبقرية البريطانية لم تكن في 'الاستهلاك' بقدر ماكانت في 'التوظيف'. فبينما اكتفت شعوب أخرى بالتعامل مع المقاهي كفضاءات للسمر وتمضية الوقت، أو حاربتها سلطاتها خوفاً من التجمع، التقط الإنجليز هذه 'اليقظة الذهنية' المفاجئة وحولوها ببراغماتية نادرة من مجرد ثرثرة عابرة إلى مؤسسات راسخة. فحولوا رهانات التجار العشوائية إلى شركات تأمين عالمية، ونقاشات العلماء الجانبية إلى ثورة صناعية، وجدل السياسة إلى رقابة برلمانية. لقد نجحت لندن فيما فشل فيه غيرها: ألا تترك 'بخار' القهوة يتبدد في الهواء، بل أن تحبسه داخل محركاتٍ مؤسسية دفعت عجلة الإمبراطورية إلى الأمام، مثبتة أن الفرص التاريخية لا تكمن في امتلاك الموارد،  بقدر ما تكمن في العقلية التي تديرها.

Wednesday, December 3, 2025

بريجيت باردو



وراء تلك المرأة الجميلة، أيقونة الجمال الفرنسي بريجيت باردو، ووراء كل أعمالها الخيرية تجاه الحيوانات، كان مجرد قناع براق يخفي ظلا مخيف .
قناع صُنع من شهرة عالمية ومن أنانية الـ«إيغو» التي غلبت على صوت القلب، حتى صارت الرحمة التي منحتها للحيوانات حرمانًا قاسيًا لابنها من الحنان نفسه.

في سنة 1960، أنجبت بريجيت باردو ابنها الوحيد نيكولا شاررييه من الممثل جاك شاررييه.
لكن بدلاً من أن ترى فيه امتدادًا للحياة، رأته عبئًا.
وفي كتابها الشهير «Initiales B.B.» الصادر سنة 1986، صدمت العالم حين قالت:

> «كنت أعيش كأن بداخلي ورمًا سرطانيًا يتغذى مني. لم أكن أريد هذا الطفل.»

ثم أضافت عن لحظة الولادة:

«عندما وضعوه بين ذراعيّ، وجدته قبيحًا كضفدع صغير... لم أشعر بشيء، لم أرده، ولم أستطع النظر إليه.»

تلك الجمل كانت كالطعنة الأولى في قلب ابنها، الذي لم يذنب سوى أنه وُلد من أمّ لم تكن مستعدة للحب.
لم تكتفِ باردو بغيابها الجسدي عن طفولته، بل غابت روحيًا أيضًا. تركته يبحث عن حضن، بينما كانت هي تلاحق الكاميرات والأنوار.
ومع مرور السنين، حين قرأ تلك الكلمات التي كتبتها عنه ببرود، تفتّت شيء بداخله.
كلماتها لم تكن حروفًا، بل رصاصًا صوّبته الأم نحو ابنها دون أن تراه يسقط من الداخل.

لكنه لم ينهزم. كبر نيكولا بشجاعة، وواجهها ورفع ضدها دعوى قضائية بتهمة المساس بحياته الخاصة  وربح القضية.
ثم غادر فرنسا إلى الأبد، ليعيش في النرويج، بعيدًا عن وطنٍ لم يمنحه أمانا ولا دفئًا أموميًا.

قصة نيكولا شاررييه ليست مجرد رواية عن أمٍ مشهورة وابنٍ جريح، بل هي مرآة لواقع مؤلم:
أن بعض الأمهات تحت ضغط الشهرة أو الجرح أو الأنا، ينكرن الحياة التي أنجبنها، فينبت في أبنائهن صمت طويل ودموع لا تُرى.

إنها تذكير لنا بأن الأمومة ليست فعل ولادة، بل فعل وعي ورحمة.
فمن لم يتصالح مع نفسه، لن يعرف كيف يمنح حبًا دون شروط.