عرف السجن شرعا بتعويق الشخص ومنعه التصرف بنفسه سواء كان فى بيت او مسجد ،او هو ملازمة الرجل لخصمه ولهذا سماه النى صلى الله عليه وسلم اسيرا
روى ابوداود وابن ماجه عن الهرماس بن حبيب رضى الله عنهما قال : اتيت النبى صلى الله عليه وسلم بغريم لى فقال لى : الزمه ، ثم قال لى : ماتريد ان تفعل بأسيرك؟ ثم مر بى اخر النهار فقال : مافعل أسيرك؟. كان هذا هو الحبس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخليفته من بعده ابى بكر الصديق رضى الله عنه وهو ان يعوق الرجل خصمه بمكان من الأمكنة او يقيم عليه حافظا وهو مايسمى بالترسيم
فلما انتشرت الرعية زمن عمربن الخطاب رضى الله عنه اشترى عمر من صفوان بن امية دارا بمكة المكرمة
بأربعة الآف درهما وجعلها سجنا يحبس فيها فعد عمر بذلك أول مؤسس للسجون فى الأسلام
وكان هناك نوعان من السجون نوع ينقل اليه المسجون عقب الحكم عليه ونوع يؤمر فيه المسجون بأن يلزم داره فلا يخرج منها ولايتصل بالخارج . وفى عهد الدولة الطولونية ظهر النوع الثالث وهى سجون تحت الأرض عرفت بأسم "المطبق"
ويعد شريح القاضى هو أول من حبس على دين فى الأسلام كما يعد الخليفة عمر بن عبدالعزيز أول من استحدث ديوانا للأشراف على السجون وأمر بحق المسجون فى الرعاية والعناية فكان يكتب للمسجونين رزق- اى مصروف- الصيف والشتاء وتكون لهم كسوة الصيف والشتاء ، ومن يمرض يعتنى به كما أمر الا يقيد أحد فى المحابس بقيد يمنعه من الصلاة ، كذلك امر بالفصل بين فئات المسجونين –اى بين من يسجن فى دين ومن يسجن فى جريمة- كما جعل للنساء حبسا على حده فعد بذلك اول من استحدث سجن خاص للنساء
كما يعد الخليفة الأموى معاوية بن ابى سفيان اول من استحدث وجود الحراس على ابواب السجون وكان المسجون بداخله يعيش حياة قريبة من حياته العادية دون ارهاق او تعذيب بل كان يقوم بصنع بعض الأشياء لحسابه الخاص . ومن جميل مايذكره المقريزى فى السلوك "ان الأمير حسام الدين لاجين العمرى احد مماليك الناصر محمد بن قلاوون قضى فى سجنه ست عشرة سنة وثمانية اشهر قضاها كلها فى عمل كوافى بديعة من صوف الماعز ويتصدق بتمام ثمنها". كذلك كان الأمير علم الدين سنجر الجاولى اعتقل ثمانى سنوات كان ينسخ فيها القرآن والحديث ونحوه
ومن جميل صنيع الأخشيد حاكم مصر حين قبض على محمد بن على الماذرائى عام331هـ/942م وكان سجنه عبارة عن "دار أعد له فيها من الفرش وآلات الغناء والأوانى والملابس والطيب والطرائف وأنواع من المآكل والمشارب مابلغ فيه الغاية وتفقدها الأخشيد بنفسه وطافها كلها فقيل له : عملت كل هذا لمحمد بن على الماذرائى ؟ فقال : نعم اردت ان لايحتقر بشئ لنا ولايحتاج ان يطلب حاجة الا وجدها فاءنه ان فقد عندنا شيئا ما يريده استدعى به من داره فنسقط نحن من عينيه عند ذلك
يذكر موسى بن مصلح احد العاملين على سجون احمد بن طولون ان احمد بن طولون كان يراعى أمر المحبوس فاءذا مضى عليه العام وحسنت سيرته افرج عنه وكان يقول : انى استعمل التشدد للضرورة . ويعد القاضى العادل بكار بن قتيبة المتوفى عام 270هـ أشهر مسجون فى مصر الأسلامية وكان سبب سجنه رفضه لطلب احمد بن طولون حين استدعاه وقال له : اثبت ان الموفق اخو الخليفة العباسى المعتمد خارجى . فقال له القاضى الشجاع :لم يثبت ذلك عندى . فغضب احمد بن طولون وامر بسجن القاضى بكار على موقفه هذا . استأجر احمد بن طولون دارا وجعلها محبسا للقاضى الشجاع . ويستكمل ابن خلكان فى وفيات الأعيان (فلما مات احمد بن طولون قيل لبكار : انصرف الى منزلك . فقال الدار بأجرة وقد تعودت عليها وصلحت لى . فأقام بها ولما جاء اصحاب الدار يطلبون اجرة الدار فيما مضى قال بكار : ليس على فيما مضى اجرة لأنى كنت مغصوبا على نفسى ولكنى ادفع لكم اجرة المستقبل)
وعن قسوة الصاحب ابن شكر متولى الوزارة فى ايام الملك العادل الأيوبى سنة 596هـ مع المساجين يذكر المقريزى فى المواعظ والأعتبار (حل بالصاحب بن شكر مرض الدوسنطاريا وازمنت فيئس منه الأطباء وعندما اشتد به الوجع وأشرف على الهلاك احضر من كان فى محبسه من المساجين وقال لهم : لا والله أأتألم وانتم مرتاحون وأمر لهم بأدوات التعذيب وبات ليلته وهو يصرخ من المرض وهم يصرخون من التعذيب ). يصف المقريزى فى الخطط حال المساجين فى القرن التاسع الهجرى (كان المساجين يخرجون مع سجانيهم فى الحديد حتى يشحذوا وهم يصرخون فى الطرقات : الجوع الجوع فما تصدق به عليهم لاينالهم منه الا مايدخل بطونهم وجميع مايجتمع لهم من صدقات الناس يأخذه السجان ويستعملون فى الحفر وفى العمائر ونحو ذلك من الأعمال الشاقة )
ويعد سجن دار المعونة هو اول سجن فى مصر الأسلامية وكان قبلى جامع عمرو بن العاص وأصله خطة قيس بن سعد بن عبادة الأنصارى اختطها فى اول الأسلام واوصى فقال : ان كنت بنيت بمصر دارا واستعنت فيها بمعونة المسلمين فهى للمسلمين –ومن هنا جاء اسم المعونة- ثم عرفت دار المعونة بدار الفلفل لأن اسامة بن زيد صاحب خراج مصر اشترى فلفلا بعشرين الف دينار ليهديه الى صاحب الروم فخزنه فيها . وفى سنة 213هـ جعلت دار الفلفل مقرا للشرطة ثم صارت سجنا يعرف بالمعونة . ويستكمل ابن الأثير فى الكامل (كان سجن دار المعونة مكان لأقامة العقوبات وسفك الدماء يحبس فيها من يريد هلاكه ، فهدمها صلاح الدين الأيوبى عام 566هـ وانشأها مدرسة للفقه الشافعى وهى اول مدرسة عملت بديار مصر )
ومن اشهر السجون "حبس الصيار" وعرف بذلك لمجاورته قاعة يخزن فيها انواع الصير المعروفة بالملوحة فقيل لهذ الحبس من حينئذ " حبس الصيار" . وكذلك سجن خزانة شمائل بجوار باب زويلة ، وشمائل هذا هو الأمير علم الدين شمائل والى القاهرة فى ايام الملك الكامل بن العادل الأيوبى وكان من اشنع السجون واقبحها منظرا يحبس فيها من وجب عليه القتل او القطع من السراق .وقد حبس به المؤيد شيخ حين كان اميرا فنذر ان نجاه الله جعله مدرسة لأهل العلم ومسجدا لله فلما كان ماكان وتولى حكم البلاد هدمها سنة 818هـ وجعلها مسجدا جامعا لمحاسن البنيان . كما شهدت قلعة الجبل سجنا عرف "بالجب" اقامه السلطان المنصور قلاوون عام 681هـ وخصصه لحبس الأمراء الخارجين عن طاعة السلطان وكان شنيع المنظر شديد الظلمة كثير الوطاويط كريه الرائحة ،ولم يزل الى ان هدمه ولده الناصر محمد بن قلاوون عام 729هـ وجعله مساكن لمماليكه
كما عرفت مصر سجون خاصة بالنساء عرفت "بسجن الحجرة" . وهناك مايعرف " بسجن الشرع" وهو سجن خاص بالأحوال الشخصية يذكر ابن داود الصيرفى فى انباء الهصر بأنباء العصر عن حوادث سنة 876هـ (وفيه عرض السلطان قايتباى المسجونين بسجن الشرع ومنهم رجل سجنته زوجته ولها فى صحبته عدة سنين فشكى للسلطان حاله فأمر السلطان بأطلاقه)
ومن جميل مانختم به حديثنا عن السجون وحال المسجونين خلف الجدران المظلمة مايذكره الكندى فى الولاة والقضاة (لما تولى موسى بن على ولاية مصر عام 155هـ جعل على شرطته اباالصهباء محمد بن حسان الكلبى وكان الوالى موسى فيه رفق بالرعية وتواضع وكان اذا اقام صاحب الشرطة الحدود بين يده يقول له الوالى : ارحم أهل البلاء ، فيقول صاحب الشرطة : ايها الأمير انه لايصلح الناس الا مايفعل بهم
ابوالعلا خليل
No comments:
Post a Comment