Friday, February 9, 2018

حقيقةً معنى الأمن القومي




قد لا يتساءل الكثيرين عن الاحتضان التركي للصومال أو العبث الايراني بنيجيريا أو التعاون الخليجي المغربي.. وفي هذا بضعة من التفاوت الكبير بين منطلقات الساسة والتزامات رجال الدولة

غالب البلدان تدار من خلف الكواليس ، حيث يقبع رجال ذوي ميثاق محدد بالعمل على تأكيد الأمن القومي بمفرداته العديدة ، من البندقية والى رغيف الخبز.. وللأسف ، لم نختبر في السودان على نحو مؤكد هذه النوعية من رجالات الدولة ، حيث جرى عرف الانقلابات السياسية والعسكرية على تجريد الاجهزة المدنية من غير الموالين ، وان كانوا ذوي الخبرة ، وفي هذا مراهقة سياسية لازالت تسيطر على المفاهيم والأقدار

وعلى العكس تماماً في كلا من مصر وأثيوبيا ، حيث تدار برجال دولة لا يذكرهم الاعلام ، وفي الغالب لا يعرفهم الناس ، إلا من يتابع الاخبار المملة عن الاجتماعات والاتفاقيات الأممية مثل الجات والكومسا وغيرهم.. وما قد أدركه البعض من الفهم السطحي لمسألة الدبلوماسية المحترفة والسياسية ، والتي أودت بمصالح البلاد الى التهلكة

ولعل الكثيرين لا يفهمون حقيقةً معنى الأمن القومي ، وإلا لأدرك العالمين أن توزيع وحدات ومواقع الجيش السودان ، حتى اليوم ، قد وضعته القيادة المصرية أبان دولة ملك مصر والسودان ، ولذا فالأمن القومي السوداني يدور في فلك تبعية لا يملك الفكاك منها ، وبرغم فصل الجنوب في مقرراتنا ، فهو لم ينفصل وفق المقررات المصرية ، وتلك بداية فهم الاستراتيجيات المصرية تجاه حلايب ودارفور والجنوب وأرينريا وأوغندا والصومال واليمن ، وجلها مواقع كانت لمصر يداً طولى فيها في مراحل تاريخية ، ولازالت برغم الضجة والضجيج .. هذا بالاضافة لأثيوبيا والكونغو حيث تتواجد فيها عيون مصرية خفية 
منذ أمد بعيد 



لدى المصريين ثلاث قواعد جوية في جنوبها ، وليسوا بحاجة للمزيد ، وكافة الطرق السريعة المصرية منذ حرب الأيام الستة ، قد تم تعديلها لتكون مهابط للطائرات الحربية ، ولعل من يسافر عليها يلاحظ نقاط التفتيش العسكرية التي قد تبدو بغير مبرر.. المنطقة العسكرية المصرية الجنوبية لا تؤمن السد العالي فحسب ، بل منابع النيل كذلك ، ولعل إنذار السادات لأثيوبيا لم يكن فارغاً أبداً.. كذلك هي العلاقات الخفية بين القاهرة وجوبا وكمبالا

غاية القول أننا في حوجة شديدة لتمكين "الدكتاتورية المدنية" لكي تثبت أقدامنا بين العالمين ، والواقع يفيد بأن العسكاريتارية السودانية الحديثة قد أثبتت قصوراً في الحفاظ على أصول الدولة باعتبارهم مقدمة الأمن القومي ، والثابت فعلاً أن غالب هؤلاء العسكريين المحدثين يسعون لحمل شارات أركان الحرب ، وليس فيهم من يحمل شارات الدفاع الوطني ، وبين الشارتين فارق كبير ، لمن يدري

وعودة على بدء ، فان سد النهضة لن يحول دون تناقص المياة بشكل مؤثر خلال قرن من الزمن ، وعلى الجميع العمل لتأكيد وتطويرالمفاهيم البيئية الحديثة لتفادي الكوارث الناجمة عن التصحر والتدهور المناخي الذي لا توجد دولة بمنأى عنهما.. هكذا بين مصر وأثيوبيا شعرة معاوية ، كما هي بين مصر وأوغندا والكونغو.. وتلك الشعرة لا يمكن أن تنقطع بإرادة تلك الحكومات ، وليس الشعوب.. الدكتانورية المدنية لا تعنى إرادة الشعوب ، بل صالحها الذي لا تدريه إلا عند المحن..
هكذا يمكن فهم المشاريع المصرية السودانية المشتركة ، والتي تخفى عن المتابعة لدى إعلامنا المراهق ، فلقد تم استبدال شركة النصر للتصدير والاستيراد بالعديد من الشركات المصرية التي لا يدري أحد من يملكها حقيقية ، أو شركات التحالف التي تمثل مخالب لا ندري طولها.. وعلى سبيل المثال يمكن التساؤل عن اهتمام مجموعة القلعة المصرية بمناطق النيل الابيض تحديداً

لعلنا نعرفها بأسم الخدمة المدنية ، ترجمةً للتسمية الانجليزية ، ولكن معارف الادارة الحكومية الحديثة تشمل تفاصيل أوفى ، وخاصة فيما يتعلق بالبنيوية والريادة ، وهكذا تشمل أية دولة عدداً يتراوح بين 13.5% الى 2.5% من السكان كموظفين عموميين ، وفق مدي تطور أساليب الادارة من تقليدية الى حديثة ، من شفهية يدوية الى رقمية ، وجميعهم يستلمون رواتبهم من الدولة مباشرة ، وهم كذلك أحد ركائز حصيلة ضريبة الدخل ، وبالنسبة للغالبية منهم تجري الامور على نحو روتيني مما نسميه خطأً بيروقراطية ، فالبيروقراطية هي جهاز الدولة

وبين هولاء نسبة 2.5% يمتلكون القرار المدني ، الذي لا علاقة له بالسياسة والأفكار ، بل القائم على معدلات وعلاقات ديموجرافية هندسية خالصة ، فالمجتع يحتاج لمستشفي لكل 100,000 من السكان ، وتتطلب خدمات الطوارئ من 8 الى 13 دقيقة ، وهكذا .. بهذا يتم تخطيط المجتمع وادارة مصالحه ومقررات بقائه التي تلخصها الشريعة الاسلامية في إعمار الأرض

هؤلاء الـ 80,000 موظف في السودان (على سبيل المثال) يشكلون هرم اتخاذ القرار ، ولا يجب أن يخرج اي قرار سياسي عن البدائل التي يقومون هم بوضعها وفق التسلسل والعلاقات البنيوية والعملياتية والادارية ، وكلما ارتقى المجتمع حضرياً صار هؤلاء النخبة أقوى بما لا يمكن لأية سياسية أو رئيس أو وزير أن يتجاوزهم ، أو أن يتخذا ما يشاء من قرارات .. هكذا ، ماقد يبدو في البلدان المتحضرة أو المتأصلة إدارياً من قرارت تغييرية أو ثورية تكون في واقع الامر واحداً من سيناريوهات إدارية معدة سلفاً ، وإلا لأصاب المجتمع الانهيار .. فالتغيير بين الديمقراطيين والجمهوريين في الولايات المتحدة ، والذي في أقصاه قد يشمل 12,000 من رؤساء الأجهزة المدنية المتنوعة ، لا يوقف الدولة ولا يعطل مصالحها ، ولعل أزمة التمويل الحكومي في بدايات حكم أوباما تمثل جانباً من هذه المسألة

هكذا ، شخصياً ، أطلق عليها تسمية دكتاتورية مديرين العموم أو الدكتاتورية المدنية ، فهؤلاء من لا يتغيرون مع التغييرات السياسية ، ولا يتستبدلون تبعاً للمولاة ، فليس لهم شأن بالحراك السياسي وتبعاته ، فهم في تعريف أخر من يضعوا محددات القرار السياسي من حيث تأثيره على المصلحة العامة للانسان العادي أو البسيط

وفي قول متصل ، يكمن الاختلاف بين السودان ومصر في التناسب بين نحو 3.5 مليون موظف عام لدينا ونحو 15.5 مليون لديهم.. ثم أن كافة الجنرالات المصريين ممن يتم تعينهم رؤساء للأجهزة المدنية عند احالتهم للتقاعد العسكري ، قد خضعوا لدورات تدريبة في كلية الدفاع الوطني داخل أكاديمية ناصر للعلوم العسكرية (أحد المعاقل العربية المخبأة)، والتي تخرج من كلية الحرب فيها العديد من كبار العسكريين السودانيين في عهد النميري على وجه الخصوص ، مثل أبو كدوك 
وغيره .. وفي هذه مزج بين الدكتاتورية العسكرية والمدنية يجعل لمصر خصوصيتها

نعم كان للنميري الكثير من الفضائل وعلى رأسها نظافة اليد وطهر السريرة ، فلا يعب المء قصور أفكاره وخبراته ، ولكنها يعيبه التخلي عن النزاهة والشهامة

وفيما ذكرت وجهان ، أولهما الاستعانة بذوي الخبرة ، وثانيهما مدى جدارة خبرة من يستعان بهم.. الأول يعبر عن مؤساستية هي بشكل أو بأخر محصلة التوجهات اليسارية آنذاك ، وثانيهما يعبر عن القصور المهني والفني للكثيرين ممن يتصدون للعمل العام .. ولعل الانهيار الحاد في مؤسسات الدولة حتى الآن هو تعبير عن تدهور كفاءة الخريجين والعاملين أكثر منه رداءة النظام الحاكم

أو كما قالوا ، كيفما كنتم يولى عليكم

رمضان كريم عليكم جميعا ، وعلى سودان المليون ميل

No comments:

Post a Comment