كتب . حامد محمد . تصوير . عمر الرزاز
يحكي المقريزي في خططه أن المسألة قد بدأت كالتالي
طلب المقوقس من عمرو بن العاص أن يبيعه سفح المقطم بسبعين ألف دينار ، فأرسل عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب يستأذنه في البيع ، فأجابه عمر: سَله لِمَ أعطاك ما أعطاك وهي لا تزرع ولا يستنبط بها ماء؟ فقال المقوقس: إنا لنجد صفتها في الكتب أن فيها غراس الجنة. فكتب بذلك إلى عمر ، فكتب إليه: إنا لا نعلم غراس الجنة إلا المؤمنين ، فاقبر فيها مَن مات قبلك من المؤمنين ولا تبعه بشيء
غراس الجنة ، أي: أشجار الجنة ، وكأن المتوفى شتلة ستزرع في المقبرة فتنمو وتثمر في الجنة ، وإذا كانت المقابر تضم غراس الجنة من الأموات ، فهي روضة من رياض الجنة للأحياء
ويحاول السيوطي أن يفسر السبب وراء اختصاص جبل المقطم بغراس الجنة ، فيذكر رواية خيالية لطيفة في كتابه "حسن المحاضرة" مفادها أن الله في الليلة التي كلم فيها موسى ، أوحى إلى جبال الأرض أنه سيكلم نبياً من أنبيائه على أحدها ، فتعاظمت جميع الجبال وتشامخت ؛ لكي يختارها الله ، إلا جبل بيت المقدس ، فإنه قد تصاغر من خشية لله ، فأمر الله كل الجبال أن تتنازل له عن بعض ما عليها من النباتات والأشجار ، فتنازل المقطم لجبل بيت المقدس عن كل ما عليه من زروع ، ومن حينها والمقطم أجرد ينبت عليه أي شجر بعد أن كان أكثر جبال الدنيا شجراً ونباتاً
فأوحى الله تعالى إليه: أني معوضك على فعلك بشجر الجنة أو غراسها
فأوحى الله تعالى إليه: أني معوضك على فعلك بشجر الجنة أو غراسها
وفي واقع الأمر ، فإن روايتَي المقريزي والسيوطي تعكسان محاولة لأسلمة المتعارف عليه في الثقافة المصرية حينها ، حيث المقبرة هي عتبة فاصلة بين معاناة الدنيا ورحابة الآخرة ، وتجعل الباب موارباً بعض الشيء عن الصورة التقليدية للمقابر في التصور الإسلامي كمكان للاعتبار والتفكر في المصير المحتوم
فقد كانت أعياد الموتى شائعة عند المصريين القدماء ، أشهرها عيد "واج" ؛ حيث يقضي ذوو الميت فترات طويلة بجوار قبره في مواسم محددة كل عام مقدمين له الأطعمة والأشربة التي كان يفضلها في حياته. وتكررت مثل هذه الطقوس لدى اليونانيين والرومانيين ، أن أهل المتوفى وأقرباءه يحيون ذكراه بإقامة الولائم وشرب النبيذ داخل المقبرة
ويبدو أن ذلك الإرث الثقافي كان قوياً ؛ إذ إن علاقة المصريين الفريدة بالمقابر قد استمرت بأشكال وصور متعددة حتى مع تغير ألسنتهم وثقافتهم ومعتقداتهم الدينية
ويقول المقريزي: "والإجماع على أنه ليس في الدنيا مقبرة أعجب منها ولا أبهى ولا أعظم ولا أنظف من أبنيتها وقبابها وحجرها ، ولا أعجب تربة منها، كأنها الكافور والزعفران"
ربما لهذا لفتت قرافة مصر (أي: مقابرها) أنظار جميع الرحالة الذين زاروا القاهرة على مر العصور ، فمثلاً قد وصفها ابن بطوطة الذي زار مصر في ذروة مجد دولة المماليك ، أيام الناصر محمد بن قلاوون ، بأنها "عظيمة الشأن" ، وأن أهالي مصر "يبنون بالقرافة القباب الحسنة ، ويجعلون عليها الحيطان فتكون كالدور ، ويبنون بها البيوت ، ويرتبون القراء يقرأون ليلاً ونهاراً بالأصوات الحسان
ومنهم من يبني الزاوية والمدرسة إلى جانب التربة ، ويخرجون كل ليلة جمعة إلى المبيت بأولادهم ونسائهم" ، أي أن أهل القاهرة اعتادوا قضاء عطلة نهاية الأسبوع في المقابر
وقد اشتهرت في مصر قرافتان ؛ القرافة الكبرى في الفسطاط ، والصغرى في سفح المقطم ، ولم يقتصر دور القرافتين على دفن الموتى فحسب ، بل امتلأت بالبيوت والمدارس والزوايا والمساجد ، وبلغ من حجم العمران بهما أن ذكر المؤرخ خليل الظاهري أن القرافة الكبرى تضاهي ثغر الإسكندرية ، وأن القرافة الصغرى أعمر منها وأحسن هيئة ، فهي تضاهي مدينة حمص
أما الرحالة المغربي البلوي فقد وصف القرافة بأنها "بلدة كبيرة منفردة بنفسها مستقلة بأسواقها ومساجدها" ، وتأخذ الجلالة المقريزي فيترنم بالقرافة منشداً
إنّ القرافة قد حوت ضدّين من ** دنيا وأخرى فهي نعم المنزل
يغشى الخليع بها السماع مواصلاً ** ويطوف حول قبورها المتبتل
كم ليلة بتنا بها ونديمنا لحن ** يكاد يذوب منه الجندل
والبدر قد ملأ البسيطة نوره ** فكأنما قد فاض منه جدول
وطوال عصر الماليك اعتبر الناس القرافة مكاناً للهو وللتفريج عن النفس ، فخرجوا يستجمون بها في الليالي المقمرة وفي المواسم والأعياد ، وليالي الجمع من كل أسبوع ، حيث يقيمون الولائم مع أهلهم وأصحابهم ، ويكثر الغناء والرقص والطرب ، ويصف المقريزي إجمالاً قرافة مصر بأنها: "معظم مجتمعات أهل مصر وأشهر متنزهاتهم"
وهذا تحديداً هو ما ينبغي علينا استحضاره عندما نتحدث عن "القرافة" ، أي: الصبغة الثقافية المصرية المميزة للمقابر ، التي ما زالت بقاياها موجودة حتى الآن ، بداية من نظام الدفن في أحواش ، والذي هو امتداد لدفن الموتى في بيوتهم على طريقة بني قرافة الذين نسب إليهم دفن موتاهم في بيوتهم ، أو في طقوس زيارة الموتى في المواسم والأعياد وتوزيع ما كان الراحلون يفضلونه من الأطعمة والفواكه كصدقات على أرواحهم. وفي أن قطاعات كثيرة لا تجد غضاضة في السكنى قرب المقابر رغم قدرتها المادية على إيجاد بدائل أخرى. وفي حرف وأنشطة كثيرة وجدت طريقها للمقابر في البيوت العتيقة والأحواش القديمة التي نسيها أصحابها ، بعض هذه الحرف له علاقة مباشرة بالمقابر كورش الرخام مثلاً ، والبعض الآخر ليس له أي علاقة بعالم الموتى ، ويكفي أن أشهر سوق شعبية في القاهرة وهي سوق السيدة عائشة تعقد مرتين أسبوعياً يومي الأحد والجمعة في قلب المقابر
وهو ما يعبر عن الازدواجية المصرية العجيبة ، اجتماع الفرح والحزن في آن، وكره الموت والاستئناس بالراحلين ، ومحاربة الموت بجعل المقابر أماكن للبهجة
No comments:
Post a Comment