لقد تنبأت قبل سنتين بأن الأحوال في السودان سوف تنتهي الى اللاشىء
فهل كانت النبؤة صحيحة ، قبل سنتين ؟
المسألة تكمن في تعريف النظام ، هل أيدولوجي أم معرفي
التغيير الأيدلوجي مثال التغيير في الولايات المتحدة ما بين بوش ، أوباما ، ترامب ، بايدن ، حيث لم تتغير أسس وركائز الدولة بل بعض السياسات الداخلية والخارجية
أما التغيير المعرفي مثاله التحول الشامل مثال روسيا جورباتشوف ، مصر ناصر ، الصين ماو ، والتي غيرت كافة هياكل المجتمع والناس والسياسات والمشاعر جميعها ، وتحول الناس بين الأضداد
هل ثورات السودان أيدولوجية أم معرفية؟
في تقديري الخاص ، أننا لم نشهد أي ثورة حقيقية ، بل انعكاسات أيدولوجية مؤقتة لم ترقى لتكون تغيير معرفي حقيقي .. ثورة مايو كانت الأقرب لتغيير المعرفي ، ولكن "سوسة" السودان قد أجهضتها مبكراً
فما هي سوسة السودان ..؟
يقول عون الشريف قاسم في قاموسه للعامية في السودان أنالسوس هو دود يقع في الصوف والخشب ، واحدته سوسة ، ونقول في السودان يأكل أكل السوسة والعافية مدسوسة
فهذه الحشرة مدمرة للبيوت والملابس والاثاث ، ويصعب التخلص منها .. وكذا فان للحياة السياسية في السودان سوسة مدمرة ، ويصعب التخلص منها.. وكم من المحاولات قد بذلت للسيطرة عليها دون جدوى .. إنها موروث قد ترسب في وعي الناس .. إنها تنخر في أفكار الناس وقرارتهم واختياراتهم ..
إن غلافها هو ذاك الإرث الاستعماري منذ بداية العهد العثماني ، الذي قد طور الآليات الاستعمارية التقليدية البريطانية والفرنسية ، لكي ينشأ آلياته الخاصة الاستعمارية تحت شعار الخلافة الاسلامية .. وبالاحرى استغلال ثروات الولايات "وليس هناك رصد لها" .. ثم جاء الحكم الثنائي بكافة أدواته "النفسية" لكي يحكم السيطرة على السودان ، مستقبلاً وليس حاضراً فقط ، وبالطبع لم يكن المصريين على مستوى دهاء الانجليز ، فشاركوا في المخطط دون حقيقة وعي ، وتحملوا كافة الاخطاء ، ولم ينالوا أي كلمة شكر على الايجابيات ، برغم ان كافة التكلفة قد تحملتها الخزينة المصرية ، والتي تعادل في يومنا هذا مليارات عديدة من الدولارات
يستطيع المتخصص أن يقرأ في سائر موروثات الخدمة المدنية والعقارية والعسكرية في السودان ، مواطن واجراءات تكبل التطوير الاداري والحركي .. لقد تم حبس النقد الاداري بالاشادة المبالغة بالمعاهد المختلفة ، تعليمية وإدارية وصحية وصناعية ، باعتبارها تمثل منتهي التطور المدني الذي لا تطور بعده ، في حين أن قيود التمويل والادارة والتوظيف والتحسين تلاحقها من كل الجهات .. ومعظم جنبات الإدارة المدنية مقيدة بإجراءات مستمدة من الخدمة البريطانية الاستعمارية ، والتي تم تطويرها لديهم وتحولها للرقميات واللامركزية منذ زمن بعيد ، بينما لا نزال نخضع للأوراق والأرانيك واللجان ومواعيد الحضور والانصراف والصلاحيات والعقوبات والحوافز ، والتي في مضمونها لا تتيح النقد والتطوير والتغيير .. هكذا نتربع في قاع مؤشرات التنمية الدولية
الشعوب أصناف ثلاثة ، المضياف والمتأني والمتباهي
المضياف الذي لم يعترض تاريخياً على استضافة الهجرات ، بل استوعبهم في مكوناته ، ومثال هذا شعوب الشرق الأوسط ، العاطفيون بلا استثناء ، أبناء سام
المضياف الذي لم يعترض تاريخياً على استضافة الهجرات ، بل استوعبهم في مكوناته ، ومثال هذا شعوب الشرق الأوسط ، العاطفيون بلا استثناء ، أبناء سام
المتباهي المتسارع والمنتشي بالقوة والذي يحمل تاريخاً دموياً قاسياً ، لكنه معرفياً ، ومثال هذا معظم الشعوب الأوربية ، أبناء يافث
المتأني الذي يتحرك ببطء الى المستقبل حاملاً موروثاته كلها ، ويكاد لا يتغير البته ، ومثال هذا غالب الشعوب الأسيوية ، الأحفاد المشتركين لكل من سام وحام ويافث
وقد يسأل البعض عن أبناء حام ، الذين يشكلون غالب الأفارقة ، والذين لظروف بيئية وتاريخية وسياسية لم يصنعوا شخوصاً أو موروثات يمكن الاستدلال بها أو عليها
السودان خليط من أبناء حام وسام ، والغلبة لدم حام الحار ، والذي يتأصل في الفلكلوريات والملامح والموروثات والمزاج والطعام والشراب واللعب وخلافه ، وفي هذا المقال لا مكان لتباهي أو فضل سوى الحقيقة التي تشكل عنق الزجاجة باتجاه المستقبل
وبين الضيافة المشهودة لبني سام ، والمزاج الحاد لبني حام ، فان بني السودان يتغنون بمفردات التسابق والزهو والكرامة في إطار من زهد البدو وحدّة الصيادون ، فلم يشهد السودان حضر نامية واقتصاد راسخ ومؤسسات متعارف عليها .. وهذا حديث يخص المليون ميل مربع وليس بضعةً هنا وهناك ..
وفي القصص التاريخية لا يوجد ما يدل على تطور الممالك والقبائل سوى أحاديث لا يؤكدها فلكلور ولا أثار ولا تقاليد متوارثة ، وما هو متعارف عليه ، فان الحضارة قد تموت ، ولكن الحضر لا تموت ، بل تنمو وتستديم وتشكل الشخصية القومية على الأرض ، بينما أنصرف المتعلمين في مقارنة والتسابق مع سائر دول الجوار في أيهم أكثر عمقاً تاريخياً وأكثر باعاً حضرياً ، بينما يقبع أكثر من 40% تحت خط الفقر
مصفوفة التسابق والزهو والكرامة في إطار من زهد البدو وحدّة الصيادون
فهل هي سوسة السودان؟
يتسابق السودانيون في كثير من الاشياء ، خاص وعام ، كريم وخبيث ، لطيف ومعقد ، وبين المغالاة في الأفراح والأتراح والمأكل والمشرب ، وخاصة المسكر بكل مسمياته ، وكذا إدعاء العلم والفهم والتميز ، وفي هذا السباق تكون الغلبة للكم وليس الكيف
ويزهو السودانيون من حلفا والى نمولي بالنَسب والحسب والمال والعقار والوظيفية ، وشأنهم في هذا شأن الآخرون ، غير أن العرف القاضي بألا تحمل تلك الخمسة أي بادرة للتميّز على الآخرين ، تفرغ الهيكل الاجتماعي من محفزات تطوره
وكرامة السودانيون هي أشهر مفرداتهم ودلالاتهم الاجتماعية ، حيث لا قبول لأية بادرة بالتجاوز أو التعالي أو الاحتقار أو الخيلاء ، بغض النظر عن مكانة ومؤهلات أطراف التشاحن بين الناس ، رجال أو نسوة ، عرب أو زنج ، ذوي علم أو جهل
أما زهد البدو فهو يرسم القناعة المتميزة لدى السودانيون ، والتي جاءت لتتوازن مع محدودية البيئة وفقر التقنية والتصحر الجغرافي ، مما جعل التطور الحضري المدني بطئ ، والتواصل العميق مقطوع ، فلم تنصهر القبائل والعشائر لتشكل شخصية قومية
وحدّة الصيادون تمثل الملمح الآخر للشخصية السودانية ، بالعنفوان المشهور لرد الفعل وسرعته الهوجاء ، والتي غالباً ما تطور الخلاف الى تقاتل ، والسكون الى مجابهة ، ولعل قطع الأرحام أحد مدلولات هذه الحدّة
في تقديري ، هذه هي سوسة السودان التي تصهر تلك الخمسة في آتون واحد لتخرج شخصية ذات متناقضات ، عصيّة على القياد أو السياسة ، وتزهو بما لديها قل أو كثُر ، وتتردد كثيراً في الاعتراف بالخطأ ، وتتواضع في غير موطنه ، وتنطلق على حين غرة بلا هوادة .. وهذا يتطلب أكثر من ثورة ومظاهرات ونظم مشلولة واتفاقات خفية ، بل عملاً متأنياً ومدروساً لتخليص جموع الشعب من القيود التي تكبل حركتها ومستقبلها ، وهذا يتطلب أميراً ميكيافيلياً ، أو إردوغاناً شوفينياً ، أو لجاناً جيبنجياً ، ووعياً أسيلندياً ، ولكن ليس سياسيون دونكيشوتياً
لنبدأ بالبحث في أساس الدولة .. ماهو الدستور؟
في غالب العالم الثالث ، فان السلطة التشريعية تتكون من ممثلين للشعب ، وممن انتخبهم الشعب ، بغض النظر عن مدى نزاهة الانتخابات ، والمثير حقاً ان معظم هؤلاء النواب لا يدركون الفواصل بين الحقائق القانونية ومدلولاتها وتأثيرها بعيد المدي على المجتمع .. الكثيرين منهم يجيدون اقتراح ومهاجمة ومفاوضة سن القوانين التي تمس أموال الناس فحسب ، دون أن يكون لها ارتباط بأي نظرية سياسية ، فتارة يدعم هؤلاء بدون وعي التوجه اليساري ، وفي آخري اليميني ، ولا يدري هؤلاء كيفية صياغة السياسات النقدية والمالية وهيكلية الموازنة العامة وترجمة التضخم والانتعاش والدين العام والاقتراض والتمويل والعلاقات الدولية والاستثمارات .. الكثير من هؤلاء لديهم أفق تعليمي ضيق ، والكثير من المال لتأمين انتخابهم مجدداً ، ويسعي هؤلاء للتمسك بالسلطة من أجل مكاسب غير مباشرة ، وأقلها الانتعاش بالسلطة والاضواء والعلاقات
هكذا ، لا تسمع بين جنبات هذه المجالس التشريعية من يتحدث أو يحلل مضامين الدساتير وحقوق المواطنة والوطن .. فهي لم تكن أبداً من الاهتمامات .. بل لم ينتخبهم الشارع لكي يتناقشوا فيها .. لذا ، فإن الدساتير التي نملكها لا تمثل أي قيمة واقعية .. وحتى القلة من هؤلاء النواب ممن يحملوا درجات في القانون ، لا يستطيعون ولا يتحملون مثل هذا النقاش ، ناهيك عن أن دراسة القانون تعد لدى الكثيرين درجة متواضعة اجتماعياً
وكم من الدساتير نتداولوها منذ الاستقلال ، وكم تتغير مع كل هبة ريح:
- الدستور المؤقت للسودان لسنة 1956
- الأوامر الدستورية خلال فترة الحكم العسكري (1958–1964)
- دستور جمهورية السودان المؤقت لسنة 1964
- دستور السودان المؤقت (المعدل سنة 1964) (تعديل) رقم 2 لسنة 1965
- دستور السودان المؤقت (المعدل سنة 1964) (تعديل) لسنة 1966
- دستور السودان المؤقت (المعدل سنة 1964) (تعديل) رقم 6 لسنة 1968
- الدستور الدائم لجمهورية السودان الديمقراطية لسنة 1973
- دستور جمهورية السودان لسنة 1988
- دستور جمهورية السودان الانتقالي (نيفاشا) لعام 2005 (الحالي)
- الدستور المؤقت (قوى إعلان الحرية والتغيير) لعام 2019
- الوثيقة الدستورية لعام 2020
الدستور يترجم التلاحم الرؤى بين استراتيجيتي المجتمع والدولة ، وعندما يسقط ، فلا يوجد مجتمع ولا دولة .. بل حالة مؤقتة من النشوة السياسية بغير هدى ولا استمرار .. سياسيو السودان ليس لديهم رؤية حول استراتيجية الدولة ، ويتدرج هذا لكي يستشعره الشعب ويعمل به باطناً وظاهراً ، وكل يوم يتبدل الاعداء والاصدقاء والمصالح والاهتمامات دون أية روابط أونسق أو منطق سوى الآنية المطلقة والأهواء والاغراض المتناقضة بين التيارات السياسية .. وما يؤسف له ، أن الكثيرين من القانونيين يشاركون في هذا الهراء القانوني ، ويسري كذلك في اتفاقات السلام التي لا يوجد فيها أية رؤية سوى تقسيم الثروات والسلطات بين الموقعين عليها ، ولا يدري الشعب عنها شئ
--------
الرأسمالية الوطنية
المؤسسات الأمنية
الاقتصاديات
الرفاهية
--------
وهلما جرا .. ويتبع
No comments:
Post a Comment