يملك قصاصو السودان حساً متميزاً بفعل البيئة والثقافة الشعبية ، وغالباً ما يتجاوزون الحدود الحمراء في تناول موضوعات مثيرة للجدل .. لكنها ممتعة في الغالب ، ويحجبها فقر النشر والتداول
قصة قصيرة: إبراهيم جعفر مكرم
فَزِعتْ الخَالةُ الكبيرة ، أقدم سيِّدة عرقي في شارع المصانع ، والمشْهود لها من قبل الجُوكِيّة بعملِ أجود مشروب كحولي في كل المنطقة الغربية.. حين اكتشفتْ أن الفتى ، حَسَن لطَافة ، مازال واقفاً أمام الإنداية رغم حر الظهيرة. كانت قد طردتْه في الصباح ، كما فعلتْ على مدار الأيام الثلاثين الأخيرة ، مشددة عليه أنها إن رأته هنا مجدداً فستقتله وتعلق رأسه كتميمة. لكن حسن لطافة ، الغارق تماماً في النشوة ، والممسوس بالخدر اللذيذ للحب والخطيئة ، واظبَ على طرق الباب ، وسؤالها ذات الطلب المعجز: (تعرسيني؟)
في البداية ظنت الخالة الكبيرة أنها لَوْثَة عابرة بفعل العرقي ، ضحكتْ على المزحة وسايرتها ، فليس هذا أول طلب زواج تتلقاه ، لكنها اكتشفتْ أن الفتى النحيل - الذي يمكن أن يكون بعمر أحفادها - جادٌ في أمره ومصر على ما يقول ، فاضطرتْ للجلوس معه وسماع حديثه ، ولم ترَ عليه أثر خبل أو جنون ، وعندما حاولتْ ثنيه عنها بالمنطق فنّد لها حُجَجها كلها ، وبدأ يكلمها بصوته الخافت المعسول حتى لَان قلبها.
حينها فقط لم تجد حلاً آخر سوى أن تتهرب منه وتتجنب ملاقاته.
حينها فقط لم تجد حلاً آخر سوى أن تتهرب منه وتتجنب ملاقاته.
لاحظ الناس، زبائنها ومعاونيها ، أن الخالة الكبيرة تتغير ، حيث اختفى العبُوس والصرامة من وجهها ، وزالت عنها آثار التجاعيد والهالات ، وصبغت شعرها وجدلته ضفائر سوداء ، وارتدت ثوباً حريرياً مزركشاً بألوان مبهجة ، وبدا فعلاً أنها تزهر بخريفِ آخر العمر… هي نفسها تعجبت من تصرفها ، أن تكون بعد كل هذا العمر مطلوبة وبشدة ، ومن خاطب يخطف الأنفاس ، فصارت تخجل وتتوارى ، وراودتها في منامها أحلام مراهقات نسيتها منذ عهد بعيد… وبالرغم من أنها كانت فظَّة تجاهه وعاملته بجلافة ، وحرمته تماماً من الدخول إلى محلها ، ومنعت صبياتها من بيع العرقي له. إلا أنها في دواخلها كانت تتوق إليه وإلى طَلَّته ، وتنتظر مترقبة كل صباح إن ما كان سيقنع ويختفي أم أنه سيظل يحاول تسلق وُعورة جبالها.
هي تعرف حسن لطافة منذ زمن ، فتى يافع في مقتبل العمر ، لطالما تبطل في مقاعد إندايتها مع رفاقه ، تَعرِف عنه أنه شاعر ، وأنه يقتات من بيع قصائده للصحف.. هزيل ذو قامة قصيرة ، وشعر أجعد كثيف ، على عينيه نَّظَّارة بعدسات ضخمة للقراءة ، لكن أيضاً بتعابير مليحة ، وابتسامة ساحرة تمنحه مسحة براءة.. وكان عندما يثمل ، ويسري الخمر في عقله ، ينشد أشعاراً رقيقة ، ويصير مرهفاً بإحساس عالٍ ، ويتلطف -على عكس السكارى- بأدب ووقار ، يجعل الفتيات يشاغلنه ويهمن به. غير أنه طلبها هي بالذات ، دون الأخريات الكثر في محيطه ، ومن دون أن تدرك الخالة الكبيرة ما الذي أعجبه تحديداً فيها.. فكانت حينما يعجزها فهم الأمر ، تقف أمام المرآة ولا ترى عدا عجوز شائخ.. فإما أنه فقد عقله أو أنه يهزل…
بيد أن حسن لطافة ، وعلى مدار شهر كامل ، ظلَّ يؤكد صدق اِلتماسه. والآن ، وهو واقف تحت شمس منتصف النهار ، هائم على وجهه ، بادي عليه السهر والأرق ، جعلها تفكر أن كل هذا يستحيل أن يأتي من نزوة شباب. رقَّتْ الخالة الكبيرة أخيراً وخفق قلبها ، ففتحتْ له بعد تردد الباب ، ومنفعلاً من رؤيتها هوى حسن لطافة على ركبتيه ، وأخذ يبكي أمامها كطفل صغير. أسندته الخالة إليها وأدخلته إلى غرفة ضيافة منفصلة عن الإنداية ، وسألته إن كان سكراناً فأجابها نعم إنه سكران بحبها… ففلتتْ رغماً عنها ابتسامة ، وبزلتْ مجهوداً كي تحافظ على كياستها المصطنعة. أجلسته على بنبر قصير ، وقدمت له عصيدة يتناولها ، وعندما رفض ألحتت عليه: (عليك الله ، شان صحتك) كان ظاهر من إعياء حسن لطافة أنه لم يأكل منذ مدة ، فبدأ يلتهم طبق العصيدة بيدين مرتجفتين ، وطوال ذلك لم يغض طَرْفَه عنها.. فكرت الخالة في أنه حقاً وسيم ، وتولدتْ في دواخلها مشاعر إعجاب ملتهبة ، وعندما فرغ من الأكل انتظرت منه أن يحاورها إلَّا أنه ظل ساكتاً. فنهضتْ وضيفته قدحاً محلى من مَعْصور تمر لم يختمر بعد ، وأشعلت عود بخور يلطف الجو ويزيل الرهبة. قال حسن: (كيفك؟) ، فظهرتْ في صوته رعشة توتر. كان متعرقاً وابتلّتْ ملابسه كلياً ، حتى أن الخالة اضطرت لفتح النافذة على مصرعيها لتهوية الغرفة.. لكن جسمه استمر في التعرق والرشح. فاستفسرته الخالة إن كان بخير. لم يجبها ، إنما أشار بكفه منادياً لتتحسسه ، وما إن اقتربت منه همس: (إنتِ قاعدة تذوبيني). فضحكت الخالة خجلة ، غطت وجهها بثوبها المزركش وقالت: (أجي يا لطافة ، دا كلام شنو).
لكنها حين نظرت إليه عن كثب تفاجأت بأن ملامحه تتغير ، وأنه من شدة العرق لم يعد قادراً على أن يسند طوله ، وأن بعضاً منه بدأ يسيح.. فسارعت إليه خائفة وحاولت دعمه ، وفور أن تلامست بشرتهما ، اقشعر بدنها بكهرباء ساكنة. ابتسم لها حسن: (سألتك، تعرسيني؟!) كانت الخالة قد نسجتْ ألف رد في خيالها ، ونظمتْ سيناريوهات إجاباتها الممكنة كلها ، لكنها آنئذ استحت ونبض فؤادها ، واستمعت فقط لموسيقى صوته العذبة بتؤدة ، صوته الذي يشبه صوت شخص ذائب ، وبعد مرور وقت طويل ، هزّت رأسها موافقة. ذابَ حسن لطافة أكثر ، وتداخلت ملامحه كلوحة ماء ، وتقلبت تعابيره ، إلا أن طلّته حافظت على رقتها بلا تشوه. فقرَّب إليه الخالة وشرع يوشوش في أذنها كلمات حبه المبجل.
مع الوقت ، كان لطافة قد أضحى شبه مائع ، وعندما مرّ تيار هوائي من النافذة المفتوحة أحدث فوقه توتر سطح ، فتجلّت عليه دوائر في غاية السحر الجمال.. كانت الخالة قد هامت به ، وكانت تفهم صوته الخريري دون حاجة إلى ترجمة ، وعندما يهدر لها تقبله على شفتيه الذائبتين الشفافتين -كفتاة تقبل سطح نهر- وتتذوق شهد حلاوتهما… ومن شدة التوق والاشتياق ، اندلق حسن لطافة ، وانسكب أمامها مصدراً صوت تلاطم قصيدة ارتجالية.
ولأن حسن أصبح سائلاً خفيف القوام ، صبّته الخالة الكبيرة في جرّة لتحافظ عليه. بيد أنها لم تطمئن ، وخافت من أن يتسرب منها أو يتبخر ، فتخسر كل هذا الحُسن.. ومدفوعة بالنشوة التي أوقدها فيها ، والاهتياج الشديد لأحاسيسها ، شربته كله حتى آخر قطرة
جميع الحقوق محفوظة لصحيفة مداميك، لقراءة المزيد قم بزيارة... https://www.medameek.com/?p=89178&fbclid=IwAR19V82KcSRMicyZNj0yycUKgUEPhPjg5OvVTgi5bUKgkyU1dmKPOTH3orw .
No comments:
Post a Comment