Sunday, May 8, 2022

القصيدة الآخيرة لحسن لطافة

 

يملك قصاصو السودان حساً متميزاً بفعل البيئة والثقافة الشعبية ، وغالباً ما يتجاوزون الحدود الحمراء في تناول موضوعات مثيرة للجدل .. لكنها ممتعة في الغالب ، ويحجبها فقر النشر والتداول


قصة قصيرة: إبراهيم جعفر مكرم

فَزِعتْ الخَالةُ الكبيرة ، أقدم سيِّدة عرقي في شارع المصانع ، والمشْهود لها من قبل الجُوكِيّة بعملِ أجود مشروب كحولي في كل المنطقة الغربية.. حين اكتشفتْ أن الفتى ، حَسَن لطَافة ، مازال واقفاً أمام الإنداية رغم حر الظهيرة. كانت قد طردتْه في الصباح ، كما فعلتْ على مدار الأيام الثلاثين الأخيرة ، مشددة عليه أنها إن رأته هنا مجدداً فستقتله وتعلق رأسه كتميمة. لكن حسن لطافة ، الغارق تماماً في النشوة ، والممسوس بالخدر اللذيذ للحب والخطيئة ، واظبَ على طرق الباب ، وسؤالها ذات الطلب المعجز: (تعرسيني؟)

في البداية ظنت الخالة الكبيرة أنها لَوْثَة عابرة بفعل العرقي ، ضحكتْ على المزحة وسايرتها ، فليس هذا أول طلب زواج تتلقاه ، لكنها اكتشفتْ أن الفتى النحيل - الذي يمكن أن يكون بعمر أحفادها - جادٌ في أمره ومصر على ما يقول ، فاضطرتْ للجلوس معه وسماع حديثه ، ولم ترَ عليه أثر خبل أو جنون ، وعندما حاولتْ ثنيه عنها بالمنطق فنّد لها حُجَجها كلها ، وبدأ يكلمها بصوته الخافت المعسول حتى لَان قلبها.
حينها فقط لم تجد حلاً آخر سوى أن تتهرب منه وتتجنب ملاقاته.

لاحظ الناس، زبائنها ومعاونيها ، أن الخالة الكبيرة تتغير ، حيث اختفى العبُوس والصرامة من وجهها ، وزالت عنها آثار التجاعيد والهالات ، وصبغت شعرها وجدلته ضفائر سوداء ، وارتدت ثوباً حريرياً مزركشاً بألوان مبهجة ، وبدا فعلاً أنها تزهر بخريفِ آخر العمر… هي نفسها تعجبت من تصرفها ، أن تكون بعد كل هذا العمر مطلوبة وبشدة ، ومن خاطب يخطف الأنفاس ، فصارت تخجل وتتوارى ، وراودتها في منامها أحلام مراهقات نسيتها منذ عهد بعيد… وبالرغم من أنها كانت فظَّة تجاهه وعاملته بجلافة ، وحرمته تماماً من الدخول إلى محلها ، ومنعت صبياتها من بيع العرقي له. إلا أنها في دواخلها كانت تتوق إليه وإلى طَلَّته ، وتنتظر مترقبة كل صباح إن ما كان سيقنع ويختفي أم أنه سيظل يحاول تسلق وُعورة جبالها. 

هي تعرف حسن لطافة منذ زمن ، فتى يافع في مقتبل العمر ، لطالما تبطل في مقاعد إندايتها مع رفاقه ، تَعرِف عنه أنه شاعر ، وأنه يقتات من بيع قصائده للصحف.. هزيل ذو قامة قصيرة ، وشعر أجعد كثيف ، على عينيه نَّظَّارة بعدسات ضخمة للقراءة ، لكن أيضاً بتعابير مليحة ، وابتسامة ساحرة تمنحه مسحة براءة.. وكان عندما يثمل ، ويسري الخمر في عقله ، ينشد أشعاراً رقيقة ، ويصير مرهفاً بإحساس عالٍ ، ويتلطف -على عكس السكارى- بأدب ووقار ، يجعل الفتيات يشاغلنه ويهمن به. غير أنه طلبها هي بالذات ، دون الأخريات الكثر في محيطه ، ومن دون أن تدرك الخالة الكبيرة ما الذي أعجبه تحديداً فيها.. فكانت حينما يعجزها فهم الأمر ، تقف أمام المرآة ولا ترى عدا عجوز شائخ.. فإما أنه فقد عقله أو أنه يهزل… 

بيد أن حسن لطافة ، وعلى مدار شهر كامل ، ظلَّ يؤكد صدق اِلتماسه. والآن ، وهو واقف تحت شمس منتصف النهار ، هائم على وجهه ، بادي عليه السهر والأرق ، جعلها تفكر أن كل هذا يستحيل أن يأتي من نزوة شباب. رقَّتْ الخالة الكبيرة أخيراً وخفق قلبها ، ففتحتْ له بعد تردد الباب ، ومنفعلاً من رؤيتها هوى حسن لطافة على ركبتيه ، وأخذ يبكي أمامها كطفل صغير. أسندته الخالة إليها وأدخلته إلى غرفة ضيافة منفصلة عن الإنداية ، وسألته إن كان سكراناً فأجابها نعم إنه سكران بحبها… ففلتتْ رغماً عنها ابتسامة ، وبزلتْ مجهوداً كي تحافظ على كياستها المصطنعة. أجلسته على بنبر قصير ، وقدمت له عصيدة يتناولها ، وعندما رفض ألحتت عليه: (عليك الله ، شان صحتك) كان ظاهر من إعياء حسن لطافة أنه لم يأكل منذ مدة ، فبدأ يلتهم طبق العصيدة بيدين مرتجفتين ، وطوال ذلك لم يغض طَرْفَه عنها.. فكرت الخالة في أنه حقاً وسيم ، وتولدتْ في دواخلها مشاعر إعجاب ملتهبة ، وعندما فرغ من الأكل انتظرت منه أن يحاورها إلَّا أنه ظل ساكتاً. فنهضتْ وضيفته قدحاً محلى من مَعْصور تمر لم يختمر بعد ، وأشعلت عود بخور يلطف الجو ويزيل الرهبة. قال حسن: (كيفك؟) ، فظهرتْ في صوته رعشة توتر. كان متعرقاً وابتلّتْ ملابسه كلياً ، حتى أن الخالة اضطرت لفتح النافذة على مصرعيها لتهوية الغرفة.. لكن جسمه استمر في التعرق والرشح. فاستفسرته الخالة إن كان بخير. لم يجبها ، إنما أشار بكفه منادياً لتتحسسه ، وما إن اقتربت منه همس: (إنتِ قاعدة تذوبيني). فضحكت الخالة خجلة ، غطت وجهها بثوبها المزركش وقالت: (أجي يا لطافة ، دا كلام شنو). 

لكنها حين نظرت إليه عن كثب تفاجأت بأن ملامحه تتغير ، وأنه من شدة العرق لم يعد قادراً على أن يسند طوله ، وأن بعضاً منه بدأ يسيح.. فسارعت إليه خائفة وحاولت دعمه ، وفور أن تلامست بشرتهما ، اقشعر بدنها بكهرباء ساكنة. ابتسم لها حسن: (سألتك، تعرسيني؟!) كانت الخالة قد نسجتْ ألف رد في خيالها ، ونظمتْ سيناريوهات إجاباتها الممكنة كلها ، لكنها آنئذ استحت ونبض فؤادها ، واستمعت فقط لموسيقى صوته العذبة بتؤدة ، صوته الذي يشبه صوت شخص ذائب ، وبعد مرور وقت طويل ، هزّت رأسها موافقة. ذابَ حسن لطافة أكثر ، وتداخلت ملامحه كلوحة ماء ، وتقلبت تعابيره ، إلا أن طلّته حافظت على رقتها بلا تشوه. فقرَّب إليه الخالة وشرع يوشوش في أذنها كلمات حبه المبجل. 

مع الوقت ، كان لطافة قد أضحى شبه مائع ، وعندما مرّ تيار هوائي من النافذة المفتوحة أحدث فوقه توتر سطح ، فتجلّت عليه دوائر في غاية السحر الجمال.. كانت الخالة قد هامت به ، وكانت تفهم صوته الخريري دون حاجة إلى ترجمة ، وعندما يهدر لها تقبله على شفتيه الذائبتين الشفافتين -كفتاة تقبل سطح نهر- وتتذوق شهد حلاوتهما… ومن شدة التوق والاشتياق ، اندلق حسن لطافة ، وانسكب أمامها مصدراً صوت تلاطم قصيدة ارتجالية. 

ولأن حسن أصبح سائلاً خفيف القوام ، صبّته الخالة الكبيرة في جرّة لتحافظ عليه. بيد أنها لم تطمئن ، وخافت من أن يتسرب منها أو يتبخر ، فتخسر كل هذا الحُسن.. ومدفوعة بالنشوة التي أوقدها فيها ، والاهتياج الشديد لأحاسيسها ، شربته كله حتى آخر قطرة

جميع الحقوق محفوظة لصحيفة مداميك، لقراءة المزيد قم بزيارة... https://www.medameek.com/?p=89178&fbclid=IwAR19V82KcSRMicyZNj0yycUKgUEPhPjg5OvVTgi5bUKgkyU1dmKPOTH3orw .

No comments:

Post a Comment