هكذا لازالت أري القاهرة ، برغم التطور والتقنية والتواريخ
هكذا هي قبلة وقطب جذب لكل الزوار والمقيمين والحالمين
ديزموند ستيوارت، القاهرة
ترجمة يحيى حقي ، تقديم د. جمال حمدان
دار المعارف ، 1987، ص 140- 144.
منقول من صفحة القاهرة التاريخية
تبتدئ حركة الأعمال في القاهرة منذ الساعة السادسة من الصباح وتنتهي عند اشتداد القيظ في ساعة الزوال فيسود السكون ويظل سائداً حتى الساعة الثالثة بعد الظهر. ولقد أجمع الرحالة الذين كتبوا عن مصر على غرابة ما تقع عليه الأنظار من المرائي في الشوارع والأسواق والميادين لاختلاط الأهلين على تعدد أجناسهم وتباين لباسهم وذكر كل منهم ما شاء أن يذكر من متناقضات تلك المناظر الغريبة فوصف الغني صاحب الجاه بملابسة الفاخرة المزركشة بالذهب إلى جانب الفقير ذي الثياب الرثة والأطمار البالية وصاحب العمل ماراً بخطوات سريعة أمام المتعبد الزاهد الذي يتمطى بلا اكتراث في الطريق فتأتي إليه النساء اللائي امتلأت رؤوسهن بالخرافات وباطل المعتقدات ليلمسنه ويربتنه للتبرك به اعتقاداً منهن أن هذا الفعل لسوف يذهب بأمراضهن.
كما وصف أولئك الناس من الأمم العديدة والأديان المتخالفة والمذاهب والشيع المتباينة بالأوصاف الجثمانية والملابس الغريبة يتخلل هذا الجمع النساء اللائي يشبهن الطيف المبهم والسر الغامض وقد تغطين بأرديتهن وأخفين ملامح وجوههن إلا ما كان من عيونهن كي يهتدين بها إلى السبيل.
دع ما هنالك من اختلاط الحمير بهذا الجمع الكثيف تشق زحامه بدافع من استفزاز السائق الشاب النشيط المتحمس إياها بالضرب تارة والوخز أخرى، إلى جوارها الجمل البطيء النهضة الذي يشعر ثقل مشيته بشيء من الوقار، وعلى مقربة منه جواد السرى مطهماً بأحسن ما تطهم به الدواب ومحلى بأجمل ما تحلى به من مظاهر الأبهة والجلال، إلى جانبه البغلة الهادئة تحمل الوقار مجسماً في شخص الفقيه البصير بعلوم الشريعة تسير الهوينا بخطوات منضبطة القياس لا تزيد على ما يرده الراكب ولا تنقص عنه.
إلى جانب ذلك كله الحواة والمشعوذين يدخلون على المارة السرور والدهشة بغريب ألعابهم وحيلهم، والقصاصون متصدرين في القهوات لرواية القصص والحوادث على مسامع المختلفين إليها من ذوي البطالة والمغرمين بالتدخين،
ينضاف إلى هذه الغرائب ما يتركه في النفس من الأثر المنظر الخاص الذي تطبعه القاهرة فيها بشكل بيوتها ذات السطوح المنبسطة وشوارعها الملتوية تلوي الثعبان في انسيابه وما لا حصر له من منارات المساجد. فإذا مثلت لخاطرك هذه المناظر مجتمعة كان لك أن تتخيل صورة هذه المدينة وتعتقد أن لا مدينة سواها على وجه الأرض تشبهها في طابعها العربي الخاص إلا ما كان من المدائن التي ورد وصفها في حكايات ألف ليلة وليلة.
أما بلدة بولاق فإلى الشمال من مدينة القاهرة يفصلها عنها سهل ضيق وموقعها على ضفة النيل وهي تقوم للقاهرة في علائقها التجارية مع الوجه البحري مقام المرفأ وبها معامل لصنع الجوخ وغزل القطن ونسج الأقمشة ومسبك لصهر الحديد وورشة لبناء السفن النيلية ووكائل ومخازن ومستودعات كثيرة للتجارة وكذا قصر لإسماعيل باشا توجد به الآن مدرسة الهندسة. وبمصر العتيقة مستودعات للحبوب يعرفها العامة باسم شون يوسف وهي عبارة عن سبعة أفنية مربعة مبنية الأسوار بالآجر. وفي هذه الأفنية أكداس شاهقة من القمح والعدس والفول وغيرها من الحبوب.
ويضيف أخرون الى ديزموند استيوارت:
ظلت القاهرة منذ مولدها مدينة متعددة الألوان، حتى في القرون التي كانت فيها "دار السلام" مفصولة عن "دار الحرب"- أي البلاد النصرانية. لم تنقطع أجناس عديدة عن الاندلاق على مصر، من بينها شتات الصليبيين (سنة 1163).
هذه هي حال لم تتبدل لمدينة لا تكف عن التبدل. طرق أبوابها الرقيق الأبيض من القوقاز، الذين صاروا فيما بعد حكام البلاد تحت اسم المماليك، والرقيق الأسود من السودان (وما كان أكثر ثوراتهم على الجلابة تجار الرقيق، وكان هؤلاء في وجلهم يجعلون بيوتهم أشبه شيء بالحصون ذات الأبواب المنيعة). وإلى جانب أولئك جميعاً تجار من جاوة والصين وعلماء وفقهاء من تونس ومراكش، وأكثر من هؤلاء عدداً وتدفقاً حشود الفلاحين المصريين من الدلتا وجنبات الوادي تجري في عروقهم آثار دماء فرعونية يضاف إليهم طوائف من أهل ليبيا والنوبة واليونان والصومال والحبشة.
وهكذا استقر من قديم طابع القاهرة المميز لها - طابع تعدد الألوان كما كان يبدو في معاهدها العلمية وفي خاناتها التي تستقبل التجار من كل الأنحاء (ويحق لنا أن لا نعتمد على صيغة التعميم- وإن كانت جديرة بالملاحظة- التي أوردتها ناشرة كتاب "دليل المسافر" سنة 1896 عن دار موراي للنشر في وصف أهل القاهرة إذ جاء فيه أن ابن البلد القاهري أسرع وأذكى من أبناء عمومته القادمين من الريف فهو بصفة عامة يتميز بخصائص بادية عليه كالسحنة السمراء الضاربة للصفرة والفم الواسع والشفتين الغليظتين كاملتي الخلقة والأنف البدين العريض والساقين الضخمتين كما تلحظ العين أنه صلب متين البنيان)..
وحين جاء نابوليون أبواب مصر للأوروبيين أصبح تناقض ألوان القاهرة أشد إثارة للانتباه والعجب فقد انضم الغرب العصري على الشرق التقليدي، وإن كانت الإضافة الجديدة لا تمثل أفضل الغربيين أو من ذوي الاستقامة والأمانة منهم، فقد توافدت على مصر في القرن التاسع عشر موجات من المهاجرين الهاربين من الفقر في بلاد جنوب أوروبا، وأصبح عدد هؤلاء الأوربيين المستوطنين بمصر يعد بمئات الألوف،
وانضم إليهم جواب الأرض في الليفانتيين نسبهم المصريون المضيافون على الشام وهي كلمة عربية تطلق على دمشق وتمتد حتى تشمل سوريا ولبنان. وازدهرت أحوال هؤلاء الأجانب في مصر - اللهم من حيث الصحة كأن الطبيعة تغدق عليهم بيد وتعاقبهم بيد، وإن سحنتهم لا تسلم من أن يغشاها شحوب رمادي أقل رواء من سمرة من يقيمون بين ظهرانيهم، ولكن رصيدهم في البنوك كان يتمتع دائماً بأطيب صحة..
No comments:
Post a Comment