أيها الأقزام هكذا كانوا عظماء
في أعماق قصر تشانغآن الإمبراطوري في الصين، يقف سفير الدولة الأموية، هبيرة بن المشمرج، مرتديًا ثيابًا عربية متواضعة هو ومرافقوه، الذين لا يتميزون عنه بشيء. يقف أمامه حكماء أهل الصـين والأمراء والوزراء، وإمبراطور الصين متربع على عرشه بكل ما يمثله من قوة وسلطة، فهو الذي تدين له ممالك الصين السبع بأسرها وتخضع له طوعًا أو كرهًا. كانت أجواء القصر تتناثر بأريج البخور والزهور، ويسودها جو من التوتر بينما كانت الأعين تتبادل النظرات بين الحاضرين والمشاهدين، ترقبًا لما سيحدث.
كان هبيرة بن المشمرج مبعوثًا من الأمير قتيبة بن مسلم الباهلي، قائد جيوش الخلافة الأموية المكلفة بفتح شرق العالم، الذي وقف قبل أيام على حدود دولة الصين بعد أن أتم فتح بلدان ما وراء النهر وأقسم ألا ينصرف عن الصين حتى يطأ ترابها ويختم ملوكها ويأخذ جزيتها.
ثار الإمبراطور بصـوت يشبه صوت الرعد في الجبال، بكلام نقله ترجمانه إلى العربية : "يقول لكم الإمبراطور العظيم : انصرفوا إلى صاحبكم فقولوا له : ينصرف، فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه، وإلا بعثت عليكم من يهلككم ويهلكه".
عندها وقف هبيرة بن المشمرج في شموخ، تعلو شفتيه ابتسامة ساخرة، وبدا كأنه لم يلتفت إلى تهديد إمبراطـور الصين، ولم يعبأ بطغيانه وجبروته، وقال له : "كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون ؟ وكيف يكون حريصًا من خلف الدنيا قادرًا عليها وغزاك ؟ وأما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا آجالًا إذا حضرت فأكرمها القتل، فلسنا نكرهه ولا نخافه".
أعادت هذه المقالة ملك الصين إلى صوابه، وأيقن أنه أمام قوم لا يجدي معهم التهديد ولا الوعيد، وتذكر مصير كسرى الفرس العظيم وإمبراطوريته التي دامت لقرون. تذكر حين استقبل الامبراطور الاسبق في نفس المكان سـفراء كسرى قبل سنوات وهم يحملون رسالة كسرى تطالبه بالمدد والنجدة والتحالف ضد المسلمين. فكان رده حينها : "يا كسرى، لا قوة لي بقوم لو أرادوا خلع الجبال لخلعوها."
فاعتدل الإمبراطور وقال لهبيرة : "فما الذي يرضي صاحبكم ؟" فقال سفير المسلمين : إن أمـيره قتيبة بن مسلم قد حلف ألا ينصرف عن بلادكم حتى يطأ أرضكم ويختم ملوككم ويأخذ الجزية."
وكانت المفاجأة، إمبراطور الصين يقر بدفع الجزية، ويقول : "فإنا نخرجه من يمينه، نبعث إليه بتراب من أرضنا فيطؤه، ونبعث ببعض أبناء ملوكنا ليختموا ختم الأسر دليلاً على الولاء والطاعة."
فدعا بصحائف من ذهب فيها تراب، وبعث بحرير وذهب، وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم ليختموا بختم الأسـر دليل الخضوع والإذعان، فقبل أسد باهلة وضرغام المسلمين، قتيبة بن مسلم، رحمه الله، الجزية وختم الغلمان وردهم، ووطئ التراب، وسط أنفاس البهجة والفخر في صفوف المسلمين.
.
.
#المصدر: البداية والنـهاية لابن كثير.
No comments:
Post a Comment