Saturday, August 24, 2019

تبرئة الحلفاويّين من سبّ الدين



الحلفاويّون
هاكم ما كتبه عنهم الطيّب صالح رحمه الله
الحلفاويّون ، كما نقول، نسبةً إلى "وادي حلفا" ، وهؤلاء قومٌ يعتبرهم المؤرّخون أعرق شعوب وادي النيل ، وكانت ديارهم تمتدّ من جنوب مصر إلى شمال السودان ، مكوّنةً ميثاقًا من لُحمة جسديّة بين البلدين ؛ إلى أن أغرقت مياه السدّ العالي ديارهم ، فنقل سكّان الجانب المصري إلى أطراف الصعيد ، وأُجلي الذين في الجانب السوداني إلى أرض البطانة في الشرق ؛ الله أعلم أيّهما أفضل ، أن لو بقيت تلك الرحم موصولة ، أو أن تكسب مصر مزيدًا من الماء ومزيدًا من الكهرباء
وهم قومٌ اشتهر عنهم في شطري وادي النيل ، أنّهم أهل نزاهة واستقامة وجرأة في الحقّ ، ونوع من القول الساخر الذي يلقونه بشكلٍ عفوي
وفوق ذلك فهم أهل دراسة وصنّاع دول ، فقد كان منهم سدنة المعابد الفرعونيّة من قديم ، وفي دمهم الإخلاص للرمز ، والتفاني في خدمة "المؤسّسة". وحين جاءهم العرب بالإسلام الحنيف قبلوه سلمًا لا حربًا ، لأنّهم رأوا لأوّل وهلة أنّه الحق ومنهم على الأرجح بلال مؤذّن الرسول
ويمضي الطيّب صالح فيذكر بعض قادتهم والمشهورين منهم خاصّةً في عالم السياسة - منسي: إنسان نادر على طريقته - بدايةً من ص ١٤٢
والحلفاويّون لهم لغتهم الخاصّة بهم بلهجاتها المختلفة وطورها الغنائي وإبداعاتهم الغنائيّة وكلّ السودان يعرف محمّد وردي رحمه الله ، وعندهم ما يشبه الدوبيت ، وقد سمعتُ أجزاء منه من أستاذي محمّد محيي الدين في المرحلة المتوسّطة
الحلفاويّون أبناء حضارة تظهر في اجتماعهم وعاداتهم وتقاليدهم ، وأصبحوا إضافة حقيقيّة للتنوّع السوداني في منطقة البطانة التي جاؤوها في بداية ستّينيّات القرن العشرين
العلم منتشرٌ بينهم- كما ورد سابقًا - وتجدهم في كلّ فروع المعرفة وحقول المهن وهم مثقّفون ومنهم علماء في كل حقول الحياة
أوّل احتكاكي بهم كان سماعًا من والدتي عندما وضعت أختي زينب في مستشفى حلفا الجديدة ، ولحظتها لم أدخل المدرسة الإبتدائيّة ؛ حفظت والدتي تحيّتهم وبعض ترحابهم لبعض وكانت تردّده لنا (مسكاقنو - ويّاجرو؟) ، وأظنّ أنّ تلك كانت أوّل تجربة لها في
سماع لغة غير لغتها



وفي المدرسة الإبتدائيّة التقيتُ بأوّل أساتذتي الذي حبّب إليّ لسان العرب وهو الأستاذ عبد الله سعيد محمّد علي ، وهو أستاذ قدير
 ومنظّم ومربّي ، وما زالت صورته بطوله الفارع الرزين محفورةً في دماغي
ومن أساتذتي في المدرسة الإبتدائيّة الذين أثّروا في حياتي من الحلفاويّين الأستاذ محمّد سيد أحمد في مادّة العلوم وهو بجانب شطارته ونباهته وخطّه الجميل كان يتبسّط أحيانًا معنا ويحكي لنا عن الحلفاويّين وعن نوادر أسرته في السنوات الأولى لوصولهم إلى منطقة حلفا الجديدة وخاصّة لحظة نزول الأمطار المصحوبة ببروق ورعود
ثمّ التقيت بمن أثّر في حياتي في المدرسة المتوسّطة وكان الجوّ كلّه حلفاويًّا من زملائي الطلّاب وأساتذتي وحتّى الطبّاخين ، والمدينة نفسها اسمها حلفا الجديدة
تلك كانت أيّام ذكرياتها بديعة ولكنّي - للأسف الأسيف - لم أنتبه لأهميّة تعلّم لغة الحلفاويّين رغم الإغراءات
من أساتذتنا العظام في المرحلة المتوسّطة كان محمّد محيي الدين في الرياضيّات ومحمّد محجوب هنيدي
في اللغة الإنجليزية ومن اشتهروا باسم واحد فقط مثل الأستاذ بركيّة والأستاذ سيّد
السبّ واللعن
هناك بعض المجموعات تشتهر في كلّ بلد بصفة تنحصر فيهم ولو ظلمًا وتؤلّف حولهم النّكات والأقاويل المضحكة مثل الصعايدة في مصر وأهل حمص في سوريا
والحلفاويّون اشتهروا بأنّهم قومٌ ذوو بديهة حاضرة وردود سريعة وكذلك أنّهم قومٌ "يسبّون" الدين
وفي ما اشتهر عنهم من "سبّ" الدين ملاحظتان
الأولى: هم لا يسبّون بل يلعنون، وهناك فرقّ بين السبّ واللعن، ولكن لا نفرّق بينهما في لساننا الشعبي
الثانية: هم لا يلعنون "الدين"، وإنما يلعنون تديّنًا فرديًّا يتمثّل في سلوكٍ يستحقّ اللعن، من وجهة نظرهم
ومن هنا نبدأ
الدين والتديّن
للدين في لسان القرءان ثلاثة مستويات هي
الدين / دين / يوم الدين، أي
الدين (بالـ التعريف) / دين: إما نكرة أو منسوبًا لمن يتديّن به مثل دين الملك
الدين (بالـ التعريف) هو نظام الحياة الأمثل من حيث النظريّة (دين الله - الدين كلّه) وأعلاه درجةً الإسلام الذي هو إسلام الوجه لله بإحسان؛ ومجالات الدين هي
- دين الحقّ
- الدين القيّم
- الدين الخالص
دين (نكرة) هو التديّن وهو الممارسة الفرديّة والجماعيّة للدين في الزمان والمكان ، ولذلك ينسب التديّن لأهله الذين نظّروا له ومارسوه في بيئتهم ووقتهم ؛ والقرءان ينسب التديّن لمن اختاره ومارسه بإضافة ضهير إلى كلمة (دين) مثل (دينكم) أو اسم مثل دين الملك
لذلك فالتديّن تاريخي ، بمعنى ارتباطه بظروفه الزمانيّة والمكانيّة ، وهذا يستدعي أن يختار كلّ شخص أو مجتمع تديّنه الذي يناسب عصره ومصره
والحلفاويّ أو غيره عندما يلعن لمن يواجهه دينَه فهو
- في لحظة مخاطبة مباشرة ولذلك يستخدم ضهير الخطاب وهو الكاف (دينك) ، ولو اكتفى بلعن (دينك) فقط فما زلنا في مرحلة العنف اللفظي ، ولله الحمد
- غضبان من سلوك "معيّن" من مخاطبه ، ومعروف أنّ السلوك مظهر تديّن خاصّ بمن يسلكه
- يعني هو يلعن "دينك في تلك اللحظة" وهو السلوك الذي يراه هو سيّئًا في تلك اللحظة لدرجة الإغاظة والانفعال
- هو لا يلعن (الدين) في مجمله بصفته نظامًا ربّانيًّا للحياة (الحق - القيم - الإخلاص) ، ولم يقترب منه
والحلفاويّون مبدعون في النكات التي تنبّه إلى عناصر الدين واستخدام الآيات في مواقف مفارقة لطيفة ومضحكة ، وهي كثيرة وفيها إشارات لفقه الدين لو توفّر لها دارس حصيف في علم الاجتماع
ويبقى أن نذكر بعض علماء الدين "الشيوخ" من الحلفاويّين ، ومنهم حسن طنون وهو مشهور في السودان والكويت وقد رأيته في أيّامه الأخيرة رحمه الله وهو والد زميلنا في مصر عكرمة ، ومحمد سيّد حاج رحمه الله ، ومحمد إسماعيل الأمين ... والشيخ أبوزيد والشيخ عبدالمنعم صالح عبده (شيخ الطريقة البرهانية) وهو شقيق زميلنا في المتوسّطة السياسي وجدي صالح عبده.

No comments:

Post a Comment