والصورة المعروضة للقبة الباقية من صهريج يعقوب شاه المهمندار المسجل عليه انتصارات السلطان قايتباي على العثمانيين كما ذكرنا سلفا، واللقطة غاية في الأهمية فهي شاهد حي على شكل القبة قبل تجديدات لجنة
حفظ الآثار العربية... ويظهر في الخلف جامع محمد علي باشا داخل قلعة مصر ، وبرج المقطم
العلاقة بين تركيا ومصر تعد من أهم التعقدات الجيوسياسية في الشرق الأوسط
يقدمها لنا أ. محمود عبر الرحيم
نعرض في هذه المقالات _ إن شاء الله_ العلاقة بين الدولة العثمانية والدولة المملوكية وأسباب النزاع بينهما، ومرجعنا في ذلك كتاب: ( دراسات في تاريخ مصر تحت الحكم العثماني ) لأستاذنا الدكتور السيد الدقن رحمه الله وأستاذنا الدكتور محمد فهيم حفظه الله .
ونبدأ الحديث بحول الله وقوته عن العلاقة بين كلا الدولتين :
كانت العلاقات بين الدولة العثمانية الفتية وبين دولة المماليك البرجية تتأرجح بين الود وحسن الجوار والتكريم المتبادل بينهما الذي وصل إلى حد تبادل الهدايا والتهاني بالانتصارات العسكرية حينا،
وبين النفور والشقاق والتنازع الذي وصل إلى حد الصدام العسكري على الحدود بين الدولتين حينا آخر، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر: الوفود التي أرسلها السلطان محمد الفاتح العثماني إلى سلطان مصر الأشرف إينال العلائي سنة 857هـ / 1450م للتبشير بفتح القسطنطينية، فأمر سلطان مصر بإقامة الزينات في القاهرة ابتهاجا بتلك المناسبة،
وأرسل وفود التهنئة بهذا الفتح العظيم، كما أرسل إلى السلطان الفاتح وفدا آخر في سنة 860هـ / 1456م يحمل الهدايا القيمة، وأيضا الهدايا التي بعث بها السلطان الفاتح إلى سلطان مصر قايتباي في سنة 876هـ / 1472م، والمعونات العسكرية التي أرسلها السلطان العثماني بايزيد الثاني والسلطان سليم إلى السلطان الغوري إبان حروب الأخير ضد البرتغاليين في البحار الشرقية سنة 916هـ / 1510م، الأمر الذي يدل على العلاقات الودية التي تتسم بالطابع الإسلامي بين سلاطين الدولة العثمانية، وسلاطين المماليك بمصر، بيد أن تلك الروح الودية في العلاقات لم تأخذ طابع الاستمرارية، ومن ذلك أن السلطان بايزيد الأول – أثناء حروبه ضد المغول- اضطرته طبيعة المعارك العسكرية التي خاضها ضدهم أن يدخل ملطية ويصل بجيشه إلى مشارف بلاد الأبلستين سنة 801 هـ / 1398م، الأمر الذي نجم عنه قلق سلطان مصر المملوكي فرج بن برقوق لأن هذه البلاد كلها خاضعة لسلطانه، وكذلك مناصرة سلطان مصر قايتباي للأمير جم العثماني في صراعه ضد أخيه السلطان بايزيد الثاني، فقد سمح قايتباي للأمير جم باللجوء إلى مصر بعد هزيمة الأخير أمام أخيه في موقعة أوكي سنة 886هـ / 1481م، ثم سمح له في العام التالي بالخروج لمحاربة أخيه بايزيد الثاني، فهزم الأمير جم وفر لاجئا إلى بلاد الفرنجة فأرسل إليه بايزيد من احتال على اغتياله،
ولم ينس بايزيد الثاني هذا الموقف العدائي من سلطان مصر قايتباي، فانتهز فرصة خروج علي دولات – من أمراء الحدود الشمالية في الشام- على السلطان قايتباي وحصاره لبلده ملطية سنة 888هـ، فأمده بايزيد بالسلاح والجند،
الأمر الذي حدا بسلطان مصر أن يبادر بإرسال تعزيزات كبيرة لقمع علي دولات .
وقد استمر التصاعد في العداء بين الطرفين إلى درجة التطرف، فصادر سلطان مصر قايتباي هدية كانت مرسلة من بعض ملوك الهند إلى السلطان
العثماني بايزيد الثاني،
كما أرسل قايتباي في سنة 890هـ / 1485هـ كتابا إلى بايزيد الثاني ومعه تقليد الخليفة العباسي بالقاهرة بتنصبه بايزيد ( قائمقام السلطان على بلاد الروم) وما سيفتحه الله على يديه من البلاد الكفرية، وهذا يعني الإعلان صراحة عن تبعية السلطان العثماني للسلطان قايتباي فكان رد السلطان العثماني على هذا التحدي والاستفزاز أن قام بالاستيلاء على القلاع التي تقع على الحدود بين الدولتين، والتي كانت مثار نزاع بينهما في ذات السنة فما كان من مصر إلا أن أرسلت في العام التالي( 891هـ / 1486م) جيشا كبيرا استطاع أن ينزل بالعثمانيين هزيمة ساحقة عند قيسارية . وأن يثخنهم قتلا وأسرا حتى بلغ عدد القتلى – على حد تعبير ابن إياس – نحو أربعين ألفا كما أسر عدد كبير من العثمانيين منهم القادة وكبار العسكريين، ولم تكتف مصر بذلك فأرسلت في سنة 895هـ / 1489م جيشا آخر استطاع أن يستعيد بقية قلاع الحدود إلى حظيرة الدولة المملوكية، وفي عهد السلطان قانصوه الغوري وصل العداء بين مصر والدولة العثمانية إلى درجة شديدة تنذر بقرب الصدام الحاسم بين الدولتين، على الرغم من مظاهر الود المشوب بالحذر،
التي كانت تطفو على السطح أحيانا والتي تمثلت في إيفاد الغوري وفدا لتهنئة سليم الأول بمناسبة اعتلائه عرش السلطنة العثمانية، وفي الهدايا التي بعث بها الأخير إلى سلطان مصر قانصوه الغوري، غير أن هذه المجاملات الدبلوماسية لم تقض على أسباب النزاع بين الدولتين .
للحديث بقية إن شاء الله تعالى عن هذه الأسباب التي أدت إلى الصراع بين الدولتين مجملة في عدة عناصر.
تتلخص الأسباب التي أدت إلى الصراع بين الدولتين في الآتي :-
1- تدخل المماليك إبان الصراع العثماني الصفوي :
تجمعت أسباب الخلافات السياسية والمذهبية بين العثمانيين والصفويين، فالخلافات المذهبية حيث نشأت الدولة الصفوية نشأة دينية متطرفة تنتمي لذهب شيعي فوضوي هو ( مذهب القزلباشي )، ولما أراد الصفويون نشر هذا المذهب في بعض أقاليم الدولة العثمانية لا سيما في الجهة الشرقية،
وهي منطقة الأكراد الحالية، وكانت منطقة حدود عليها تنازع بين الدولتين بسبب توسع العثمانيين الجغرافي ومحاولة بسط نفوذهم في تلك المنطقة القريبة من تبريز عاصمة الصفويين، مما أجج الصراع بينهما، أضطر الصفويين للاتصال بالبرتغاليين في محاولة للقضاء على الدولة العثمانية، مما حدا بالدولة العثمانية الاتجاه نحو الشرق والقضاء على تبريز والدولة الصفوية سنة 914هـ ،
ومن هنا فقد تدخل المماليك إبان هذا الصراع بين الصفويين والعثمانيين حينما كانت الحرب دائرة وأتت للسلطان العثماني سليم الأول إمدادات وهدايا من المسلمين في الهند فقام قنصوة الغوري بالاستيلاء عليها، بل وأرسل إلى الصفويين رسالة تأييد لما يقومون به من أعمال عسكرية وحربية ضد العثمانيين وهو ما دفع السلطان سليم الأول لأن يقوم بالاتجاه نحو الدولة المملوكية فيما بعد .
2- الصراع على الحدود :
يعود الصراع بين المماليك والعثمانيين على الحدود إلى محاولة الدولتين الاستيلاء على طريق التجارة القادمة من الشرق من الدولة العثمانية،
بالإضافة إلى أن مناطق الحدود تعتبر لها أهميتها الإستراتيجية للأناضول بوجه عام إذ أنها تعد امتدادا طبيعيا لها، وقد حاولت الدولة العثمانية الاستيلاء عليها على الرغم من أنها خاضعة سياسيا وإداريا لدولة المماليك، وهذه الإمارات هي إمارة ذو القار ودولتا الشاه البيضاء
والسوداء في جنوب شرق الأناضول في مناطق ديار بكر وما حولها بالإضافة إلى إمارة بني رمضان، وقد تدخلت الدولة العثمانية بالحيلة لإخضاع هذه الإمارات ومرة أخرى بالصراع العسكري حتى تمكنت الدولة العثمانية بالفعل من السيطرة على تلك الإمارات مما جعل الدولة المملوكية تتدخل من أجل استعادته .
3- إيواء المماليك للأمراء العثمانيين :
يرجع السبب إلى ما سبق أن أشرنا إليه وهو صراع الحدود مما دفع الدولة المملوكية إلى الانتقام من العثمانيين، فقامت الدولة المملوكية باستقدام اللاجئين العثمانيين من أمراء الدولة وأشقاء السلاطين
العثمانيين الخارجين على طاعة السلطان . حيث أنزلهم المماليك منازل كريمة، وأغدقوا عليهم أموالا طائلة، بل أمدوا بعضهم بالسلاح والعتاد لمحاربة الدولة العثمانية .
ويرجع سبب فرار إخوة السلطان من الدولة إلى القانون الذي سنه السلطان حتى لا يتنازعون على السلطة ويتهدد عرش الدولة أمام أعدائها.
لذا انتشرت ظاهرة هروب الأمراء ولجوئهم إلى الدول المجاورة ومن بينها الدولة المملوكية التي آوت الأمير جم العثماني مما عجل بالصراع العسكري بين العثمانيين والمماليك .
4- الأوضاع الاقتصادية للمماليك :
منذ ظهرت حركة الكشوف الجغرافية قام البرتغاليون باكتشاف طريق رأس العواصف ( الرجاء الصالح تيمنا ) سنة 1498م وكان لاكتشاف هذا الطريق أثره البارز في انصراف طريق التجارة إلى أماكن بعيدة عن هيمنة الدولة المملوكية المتمثلة في الطريق القديم ( البحر المتوسط _ السويس _ آسيا ).
ولقد حاولت الدولة المملوكية استعادة الطريق القديم لنشاطه ودخلت في صراع مع البرتغاليين كان منه معركة ديو البحرية 1509م .
وترتب على الأوضاع الاقتصادية المتدهورة أن حدثت مطالب من الأمراء المماليك بحقوقهم لم تستطع الدولة دفعها فقاموا بالعصيان وفرضت ضرائب على الشعب المصري مما أحدث فتنا واضطرابا سهلت على الدولة العثمانية الوصول إلى مصر والاستيلاء عليها .
5- أسباب أخرى
وبالإضافة إلى ما سبق هناك عاملان أوردهما بعض المؤرخين اولهما موضوع ( التشبع ) وهو وصول الدولة العثمانية _ في صراعها مع أوروبا إلى درجة التشبع والملل مما جعلها تتجه إلى المشرق والدولة المملوكية على وجه الخصوص ولا شك أن الرد على هذا الموضوع يسير يرده ما قام به السلطان سليمان القانوني من معاودة الفتح داخل أوروبا حتى وصل إلى أبواب فيينا خلال النصف الأول من القرن السادس عشر الميلادي .
وأما ثانيهما فيتمثل في العامل القومي التركي أي أن الأتراك وجهتهم الفكرة القومية إلى الاتجاه نحو الشرق لبناء
إمبراطورية تركية وهذا الكلام لا ينبغي أن يذكر وذلك لأن التيارات القومية بمعناها المعروف لم تظهر إلا في مطلع القرن التاسع عشر أي بعد هذه المرحلة التاريخية بثلاثة قرون وأن القومية بمعناها القديم كانت الانتساب إلى الدين وهو ما يؤكد انتفاء هذه الفكرة كذلك .
كانت هذه هب الأسباب التي أججت الصراع بين العثمانيين والمماليك في مطلع القرن السادس عشر الميلادي وأدت إلى معركة مرج دابق وما تلاها من معارك مثل موقعة غزة ثم الريدانية وبعض المناوشات وأعمال المقاومة الشعبية التي لم تجد شيئا .
No comments:
Post a Comment