Friday, November 14, 2025

أبناء القسوة وبنات الدلال

 



A point of View... Not mine...!

أبناء القسوة وبنات الدلال
المجتمع الذكوري القاسي على الرجل..الرحبم على المراة
على غرار السردية المتداولة ، التي لطالما تروج ظلم المجتمع الذكوري للمراة ، و بعكس ما نراه غالبا في الطبقات المتوسطة والغنية، ففي الحارات الشعبية التي تُولد فيها الحكايات والألم معًا، تتكرّر مشاهد تبدو عادية للوهلة السطحية، لكنها تحمل في أعماقها خللاً كبيرًا لا يُرى. هناك، حيث تُربى الفتاة على وسادة من الحنان، يُترك الصبي وحيدًا يواجه الحياة دون دليل. مجتمعاتنا الشعبية، على سذاجتها الظاهرة، تُبالغ في تدليل الإناث وتعزيز وعيهن بذواتهن، بينما تُنزل على الذكور سياط القسوة وكأنها تصنع منهم رجالًا بالفطرة.
الفتاة تُربى على أنها غالية، كائن هشّ يستحق الحماية والرعاية، تُسمع كلمات الإطراء، ويُحتفى بمشاعرها، ويُفهم غضبها وبكاؤها كأشياء بشرية طبيعية، بل جميلة أحيانًا. تُحتضن حين تتألم، وتُحمى حين تخطئ، وتُدفع للمدرسة وللوعي وللتعبير عن ذاتها، كأنما العالم كله يهيئها لأن تكون قوية دون أن تُجرح. بينما الصبي، يُعامل من اليوم الأول كأنه يجب أن يكون جاهزًا لكل شيء. يبكي؟ يُسكت. يخاف؟ يُسخر منه. يُخطئ؟ يُضرب. يطلب الاهتمام؟ يُقال له: "عيب، أنت رجل".
وهكذا، تُبنى نفسية الفتاة على الطمأنينة، بينما تُترك نفسية الفتى عارية تواجه العاصفة. يكبر الاثنان، لكن بداخل كل منهما عالم مختلف تمامًا. هي تعرف ذاتها، تفهم مشاعرها، قادرة على طلب الحب والدعم والكلمة الطيبة. أما هو، فلا يعرف كيف يُفصح، لا يثق أن هناك من سيفهمه، لا يُجيد طلب الحب، لأنه ببساطة لم يُعلّمه أحد كيف يفعل ذلك. هذا التفاوت النفسي العميق لا يُولد تعاطفًا، بل شرخًا. تبدأ الفتاة في شبابها تنظر للصبي على أنه غليظ، صلب، غير حساس، بينما هو مجرد إنسان لم يُعلّمه أحد كيف يكون طريًا دون أن يُكسر.
ثم نصل إلى المراهقة، تلك المرحلة التي تنفجر فيها كل الجراح المؤجلة. الولد الذي لم يُدلّل يومًا، ينظر إلى والده بعين حنق مكتوم. الأب الذي رآه طوال عمره مصدرًا للقسوة والانضباط، يصبح عدوًا داخليًا، بينما الابن لا يجد مساحة يُخرج فيها ألمه إلا من خلال التمرد أو الانغلاق أو العنف. وتبدأ السلسلة تتكرّر: شاب مكسور، يحمل قسوة تُحسب عليه لا له، وتُدان "ذكوريته" وكأنها خيار، لا نتيجة لما صُنع به.
وهنا تنهار سردية "التمييز ضد المرأة" التي طالما روجت لها الحركة النسوية. لأننا حين ننظر بعمق لا بسطح، نكتشف أن الذكر في هذه المجتمعات ليس المميز، بل المُهمل، المُتروك، المُطالب بكل شيء دون أن يُعطى شيئًا. لا يُدلل، لا يُصغى له، لا يُحمى، لا يُربّى على الحب. ويُقال بعدها إنه الجلاد.
الحقيقة أن هذه المجتمعات التي توصف بالـ"ذكورية" هي في حقيقتها تُفرّق ضد الذكور. تمنح البنات الرعاية الزائدة والوعي والدعم النفسي، بينما تُترك الذكور ليكبروا كأشجار عارية الجذور، تبدو قوية من الخارج، لكن أول ريح كفيلة بإسقاطها. هذه المعادلة لا تُنتج عدالة، بل تُعيد إنتاج جرح عميق يتوارثه الأبناء بصمت، ويتحول لاحقًا إلى صراع غير مرئي بين الرجل والمرأة، وبين الابن والأب، وبين الذكر ونفسه.
وهكذا، لا يصبّ "المجتمع الذكوري" كما يُقال في مصلحة الذكر، بل عليه تمامًا. لكن لأن ألمه لا يُبكى عليه، ولأن جروحه لا تُرى، لا أحد يصدّق أنه الضحية. وهذه أكبر خديعة وقع فيها الجميع.
وما إن يمتد ذلك الأسلوب في التنشئة إلى مؤسسة الزواج وخيارات الارتباط، حتى تبدأ الكارثة في أخذ شكلها الكامل: يخرج الحب مشوهًا، مشروطًا، ومثقلًا بتوقعات لا علاقة لها بالمشاعر. الفتاة التي كبرت على دلال مادي وعاطفي لا تُصدق أن للحب معنى خارج العطاء والامتلاك، فتبحث في الرجل عن المال، عن الأمان المالي، عن الاستقرار المُعلّب، لا عن روح تشاركها الطريق. والرجل، الذي كبر محرومًا من الحنان، يبحث في المرأة عن أم بديلة، عن صدر يحتضنه، عن لمسة لا تُحاسبه، عن حب لا يُشترط فيه الأداء.
لكن المفارقة أن كليهما لا يعرف الحب كما هو، بل كما صُوِّر له في بيت الطفولة. هو يعطي ليُقبل، وهي تأخذ لتشعر أنها مرغوبة. هو يُرهق نفسه ليشعر بأنه يستحق، وهي تنتظر المزيد لتشعر بالأمان. وهكذا، يدخلان العلاقة مثقلين بالاحتياج، لا بالمشاركة، ويتحول الزواج إلى ساحة تفاوض لا مساحة تلاقٍ.
الرجل يُفجع حين يكتشف أن الحب وحده لا يكفيها، وأنه مطالب بتأدية دور المُنقذ المالي والمُبهر الاجتماعي. والمرأة تُصدم حين تجد رجلاً يطلب الحنان، لا يُتقن القسوة التي تعلّمت أنها دليل الرجولة، ولا يُبهرها ببرود أو سيطرة، بل يطلب عاطفة لا تعرف كيف تقدمها إلا في صورة مشروطة.
يصبح الزواج استمرارًا لذلك الخلل الأول، لا علاجه. يُعاد إنتاج المأساة في قالب جديد: ذكرٌ مجوَّف يبحث عن دفء، وأنثى مشروطة تبحث عن ضمان. فلا هي تجد فارس أحلامها، ولا هو يجد الحضن الذي حلم به. ينهاران سويًا تحت وطأة سوء الفهم المتبادل، ويظن كل منهما أن الآخر هو السبب، بينما السبب أعمق من ذلك بكثير… السبب تربية نسينا فيها أن الحب حاجة إنسانية، لا أنثوية فقط، وأن الحنان ليس عيبًا في الذكور، وأن القسوة ليست تأهيلًا للحياة بل للخراب.

No comments:

Post a Comment