Friday, November 22, 2019

Ènchantè


فى فيلم المرايا نجد البنت المرفهه الجميلة الدلوعة (نجلاء فتحي) والتي كاد قطار الزواج يفوتها ، فرَضِيَتْ بأن تذهبَ إلى أختها (زيزي مصطفى) وزوج أختها (عادل إمام) لتقابل عريسًا أزهريًّا معمَّمًا (عبد المنعم إبراهيم)، جهبذ الجهابذة (كما أطلق عليه عادل إمام).
وصل الأستاذ يونس (مدرِّس أول اللغة العربية)، ملتفًّا بجبته متدثرًا بعباءته مشخِّصًا دور شابٍّ في الثلاثينات وقورٍ وهادئ الطباع.. سَلَّمَتْ عليه نجلاء فتحي، باذلةً ثقافتَها الفرنسية:
Ènchantè (تشرَّفنا بالفرنسية).
رد عليها بثقة وطبيعية: ?Mademoiselle comment ca va
بدهشة ردَّت كريمة: حضرتك بتعرف فرنساوي؟!
أجابها بالفصحى التي تعطِّش الجيم، وتحترم الحركات: وإنجليزي ويوناني وألماني ، يقول كلمتين بالألمانية، فترد كريمة وما زالت الدهشة تأكلها: غريبة قوي!
يقول لها: وما وجهُ الغَرَابةِ يا آنسة، هل تَعلُّم اللغات، من المعجزات؟! (لاحظ السَّجْع) ثم يُكمِل: لقد تعلمتُ اللغاتِ وحدي، بمجهودي الخاص.
هي بدهشة مضاعفة: إِزَّاي؟
ردَّ عليها: بالشِّعْرِ، كل شيء سهل لمن يتذوَّق الشعر. مثلًا: كتبتُ في الإنجليزية، ألفية ابنِ هالك (يقصد على غرار ألفية بن مالك)، مطلعها:
البَّحْرُ Sea وقِيلَ عنها: أنظُرُ *** والعينُ Eye.. والــ(I) عني تعبِّرُ
(البيت موزون إلى حد كبير)


ويكمل: - وباقي العلوم أيضًا، الجغرافيا كتبتُ عنها الألفية الكروية:
ويسألونك عن أمريكا *** فقل هي بلاد الفبريكا
وإذا مررت على إيطاليا *** فسل عن المعكرونة واللامون الأضالية
(نوع من الليمون كبير الحجم)
(يُلاحظ أن البيتين الأخيرين غير موزونين، وهما من صِناعة غير ماهرة)
وحين سألها عن نظرية النسبية لآينشتاين.. ردَّت بإحراج بأنها (سمعت عنها بس).. يتنحنح، ويظهر أثر الامتعاض:
- إذن تعرفين نظرية النشوء والارتقاء لداروين؟!
- الحقيقة لأ!
الامتعاض نفسه
- وفي أي كلية تخرجتِ يا آنسة (لاحظ استخدامه لحرف الجر «في» مع التخرُّج الذي هو التدرُّب، وهو استخدام صحيح، كثيرًا ما يُخطِئ فيه معظم المعاصرين).
- ولِمَهْ؟! (واضعًا هاء السكت بعد الاستفهام بـ«لِمَ» وهو مما يجوز ويجمِّل النسق الصوتي).
- ظروف.. ظروف خاصة.
حتى يصل المشهد إلى ذروته، حين تبادر هي إلى سؤاله:
- هو حضرتك مقيم في مصر؟!
فأجاب بأنه مقيم في مصر وعائلته تقيم في الأرياف.
تسأله: عندك أملاك؟!
فيجيبها بما يشبه درسًا في اللغة العربية: أَيْ نَعَمْ.. نملِك «دارًا» و«دوَّارًا» و«دُوَّارة» و«دِرْدَارةَ».
- مش فاهمة يعني إيه؟
- «دارًا» نسكُنُها، و«دوارًا» لبهائمنا، و«دوَّارَة» أي ساقية تروي أرضنا، و«دردارة» أي طاحونة يديرها أخي في قريتنا.. واضح؟! (كل هذا صحيح ومتقن، ويبدو أن كاتب السيناريو محيي الدين عارف، يُتقِن العربية).
تجيب بفتور: آه واضح.
ثم أخرجت العروس مرآة لتتملَّى في مفاتنها، وتسأله لماذا انقطع عن الكلام؟!
أجاب في شدَّة: كيف أتكلم وصاحبة السؤال مشغولة عندي..؟!
- اتفضل.. اتفضل.. سامعاك!
فأجابها أنه لا تتفق مِرْآةٌ ومَرْآيَ! فالمرآةُ أنانية لا يرى الإنسان فيها إلا نفسَه؛ فإذا أطال النظر إليها شُغِل بها، والحديث مشارَكَة ومن آدابه الإصغاء وحُسن الاستماع (منحها درسًا كاملًا يشبه بلاغة هذا الزمان مباشرة وواضحة، وذات هدف).
ساد الصمت عندما وصل المستوى إلى هذه الطلاقة اللغوية، فبادر هو إلى سؤالها:
- وأنتم ماذا تمتلكون؟!
- عيلتنا كبيرة قوي.. حسب ونسب.. و..
- فقط؟!
- هو حضرتك من اللي بيدوروا على أملاك المرأة؟!
- مطلقًا.. عندي ما يكفيني، وزيادة، ولكني أعتقد أن الجمال والحسب لا يكفيان؛ فالمرأة عندي عِلْمٌ وثقافة.
- يعني حضرتك عايز امرأة عاملة.
- المرأة لا تتعلم لتعمل فقط، بل لتكون زوجة متعلمة، أمًّا متعلمة، ربةَ بيتٍ متعلمة.
دخلت الخادمة بكوب من الشاي، فاعتذر طالبًا فنجانًا من القهوة.
ردَّت الشغالة: من عينيا يا أستاذ.
ردَّ هو بوقاره الملازِم له: لا.. من يدِ الأستاذة كريمة.
كريمة في غضب: اشمعنى يعني.. ما هي زكية موجودة؟!
ردّ هو: فنجان القهوة يُنبِئ عن شخصية صاحبة البيت، ومدى رسوخِ قدمِها في بيتِها.. ولم يَكُنْ أبي (رحمه الله) يتذوَّق القهوة إلا من يد أمي.
وتحت ضغط أختها، قامت كريمة لتُعِدَّ القهوة، فكادت زكية الشغالة تطير فرحًا، فأفلَتَ لسانُها: «يا حلاوة، الستّ كريمة دخلت المطبخ».
فسأل: سيدة بيت ولا تدخل المطبخ؟! عجبًا ثم عجبًا ثم العَجَب العُجَاب!
الحقيقة أن نتيجة دخول كريمة المطبخ، مؤلمة، فيبدو أنها وضعت مِلحًا بدلًا من السُّكَّر، حتى غُمَّ عليهم جميعًا معنى القهوة، وظنَّها عادل إمام (زوج أختها) عدسًا!
رفض الأستاذ يونس أن تصنع له أختها فنجانًا آخر، وإنما استأذن مسرعًا الخطا إلى الباب، تعود الأخت (زميلته في المدرسة) لتنبئ الجميع برفضه العروس قائلًا: (بيقول عاوز ست بيت مش مرايا!)!
كان هذا المشهد (Master scene) الفيلم ، هو المشهد الذي يُفيق هذه الفتاة المغرورة بجمالها ، المنكبة على نفسها ، أستاذ أزهري معمَّم، يحسن اختيار ألفاظه ، يلقنها درسًا في كيف أن المرأة علم وثقافة ، والتعليم صنو لها وليس تفضُّلًا ، وأن المرأة صنو الرجل ، وليست سلعةً لمن يملك شراءها ، وأنَّ الرجل ليس أملاكًا ومالًا ، كما أن المرأة ليست وجهًا جميلًا وشعرًا ناعمًا.
العجيب أن يختار المخرج أحمد ضياء الدين شخصيةً امتزجَتْ باللغة العربية ، وعُجنت بها ، لتكون هي مرشد الفيلم وصاحب العظة والحكمة ، لا سيما في مطلع السبعينات، تلك الحقبة التي توارت فيها اللغة العربية إلى خلف الظلال ، مازجًا إياها بمسحة من السخرية و«الدم الخفيف»، غير مخرج لها من وقارها الحقيقي ، ورصانتها ، راسمًا لها خطوطًا من التفتح دون عصبية ، والقدرة على مجاراة العصر، إلى الدرجة التي يتعاطف معها جمهور المتلقين ، ويعرفون لها دقة الحكم ، ويتبنون وجهتها في الحياة ، لائمين على الفتاة قصر نظرها ، وضعف تكوينها العلمي والثقافي ، لتخرج كل امرأة تشاهد الفيلم بغاية إثبات الذات ، مُحذَّرةً إن كانَتْ أمًّا أن تخرج ابنتها هذا المخرج المضعِف لها على كل حال.
منقول

No comments:

Post a Comment