كتب محمد قدري قائلاً..
يقول بن خلدون عن القاهرة :
"... فرأيت حاضرة الدنيا وبستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر وإيوان الإسلام وكرسي الملك، تلوح القصور والأواوين في جوه وتزهر الخوانق والمدارس والكواكب بآفاقه، وتضيء البدور والكواكب من علمائه..."
وهذا عندما رأى ما بها من منازل وقصور .. مدارس ومساجد وجوامع .. قباب ومآذن ومحاريب ومنابر وإيوانات.. كتاتيب وأسبلة وخانقاوات وتكايا ورباط .. حواري وأزقة ودروب وشوارع... وكالات تجارية وقيساريات وأسواق وحمامات وحتى أحواض للدواب وأوقاف للبشر بل وكذلك لقطط وكلاب الشوارع رأفة بهم ...وغير ذلك مما لا يمكن حصره في مقال واحد.
أما عن مقابرها يقول عالم مغربي آخر وهو الرحالة علي بن موسى يصف قرافة المماليك:
إن القرافة قد حوت ضدين معا...دنيا وأخرى فهي نعم المنزل
كم ليلة بتنا بها ونديمنا ... لحن يكاد يذوب منه الجندل
والبدر قد ملأ البسيطة نوره ... فكأنما قد فاض منه جدول
وبدا يضاحك أوجها حاكينه... لما تكامل وجهه المتهلل
خواطر صباحية متفرقة استدعاها تصفح عدد من المشاركات القديمة على صفحتي...
تحتضن مصر بصفة عامة والقاهرة بصفة خاصة العديد من المشاهد والأضرحة الحقيقية والرمزية (مشاهد الرؤيا أو أضرحة الذكرى) دون أن يشترط زيارة صاحبها لمصر من الأساس فضلا عن أن يدفن بها.
وبعد جولات متعددة خلال الفترة الماضية في منطقة مقابر وجبانات وقرافات القاهرة نرى أن التسمية بمنطقة "المقابر" قد تعد تسمية غير صحيحة بحكم الواقع ..
حيث تبدو كمكان متعدد الأبعاد ومركز نشيط للسكنى وحياة اجتماعية ودينية وتجارية (مثال سوق الجمعة الحيوي بين المقابر وشوارعها).
حيث تتلاشى الفواصل بين عالمي الحركة والسكون والحياة والموت ..
بل ويبدو الموت هنا امتدادا طبيعيا للحياة منذ العصر المملوكي الذي رسم الطابع المغولي للقاهرة ببعدها البشري الممتد إلى الأصقاع الآسيوية وآثارها وقبابها وخانقاواتها ومظاهر تبجيل المبجلين وغير ذلك حتى عصرنا الراهن..
أسماء متعددة لنفس المكان قد تحمل معان وتاريخ مختلف "ترب ومقابر وجبانات وقرافات" طوت كل ثاو في الأرض وترك آثاره فوقها ..
وغير ذلك الكثير والكثير من آثار العصور والأعراق المختلفة التي جمعتهم مصر عبر تاريخها وعلى أرضها.
قبط ويونان .. عرب وسودان .. مغول وتركمان .. فرس وألبان.. كرج وبلقان.. كرد وأرمن .. ترك وشركس .. أحباش وبربر..أبخاز وتتر .. أوزبك وكازاخ..
وغيرها من قائمة طويلة من شعوب النهر والبحر والصحراء والسهوب والغابات والسهول من كافة أنحاء العالم القديم في إفريقيا وآسيا وأوروبا
غيض من فيض ... أسماء وكلمات لضرب المثل لا للحصر .. تحت كل حجر أثر ووراء كل اسم لشارع أو درب تاريخ وحكاية أو حكايات .. بقيت القباب والخانقاوات والمقابر وغيرها من الآثار شاهدة عليها ومذكرة بسير أصحابها.
ونأمل في الحفاظ عليها...
التمشية في شوارع القاهرة ومقابرها العتيقة المتداخلة مع بيوتها وأسواقها في صباح الجمعة الهادئ ممتع وله مذاق ورونق رائع..
شارع المعز .. الصليبة .. السيوفية ..الدرب الأحمر.. القلعة .. السيدة زينب .. الحطابة .. سوق السلاح .. باب الوزير .. الخليفة .. قرافة المماليك .. بوابات القاهرة.
درب الأغاوات .. درب الحرافيش.. حارة الزهومة .. حارة برجوان.. السكرية...
لا سيما إذا ما استحضر الإنسان أحداث الدهر وتقلباته وحوادث التاريخ وجغرافيا الأعراق القاطنة بها وانفعل بها وتفاعل معها ليكتسب فوق عمره أعماراً من أعمار شخوصها .. تلك الأحداث التي مرت بها وسكنتها وعمرتها وتركت بها آثاراً خالدة تليدة تظل - مع ما علق بها من إهمال - شاهدة على ثراء وتنوع ثقافي فريد لهذه المدينة الصاخبة المزدحمة الباعثة غالباً على الغضب والمعكرة لصفاء النفوس وسكون القلوب والتي يعد فيها نشاط روتيني اعتيادي مثل عبور الشارع مثلا مخاطرة بالحياة ذاتها في كثير من الأحيان.
يرجع الفضل والامتنان هنا إلى أستاذنا الفاضل أبو العلا خليل حفظه الله والذي كنت أتعلم منه بالنظر والذوق والشغف حب التاريخ والآثار قبل المعلومات القيمة المتكدسة بالكتب لمن رام أن يقرأها.. وكذا للدكتور الفاضل أبو العمايم عندما نسير معه بين شوارع القاهرة ودروبها لنتعلم ونحزن على ما اندرس من آثار واندثر من تراث ندر فيما أرى وأعتقد أن تحويه مدينة أخرى في العالم غير القاهرة الزاهرة.
أرى أستاذ أبو العلا في الجولة ينظر لمبنى حمام قديم متهالك مهدم مثل حمام حسام الدين الدود بشارع القلعة أو بوابة جميلة مثل بوابة خانقاه "بيبرس الجاشنكير" بالجمالية أو قبة خوند طغاي بقرافة المماليك (وغير ذلك) فيتأمل الأثر لدقائق معدودة قبل بدء الشرح ويتمتم بحب "الله .. الله .. الله"
فلا نملك إلا أن ينتقل إلينا حبه ثم ينطلق وكأنه يقرأ نصاً من كتب مفتوحة للمقريزي وغيره ليسمعنا النصوص المتعلقة بالأثر وتاريخه وأهم الأحداث التي مرت به فأرى وكأن أصحابها يمرون من حولنا ويكأنني قد انتقلت إلى عصرهم.
وما تقدم وغيره بالنسبة لي يعد من المتع المتميزة .. لعل في هذا إجابة لمن تفضل علينا بالاهتمام والسؤال عن سبب مشاركاتي العديدة مؤخراً للتعريف بآثار القاهرة على صفحتي على الفيسبوك.
ثلاثون بلداً زرتها منذ سن العشرين .. لفترة قصيرة أو طويلة نسبيا أو عشت بها لعدة سنوات لطبيعة العمل ختمتها بزيارة الهند لمدة شهرين في أواخر العام قبل الماضي ..
ولسبب أو لآخر فجرت زيارة آثار الهند المملوكية (سلطنت غلامان) والمغولية رغبة جارفة وشوقاً عميقاً لإعادة اكتشاف القاهرة منذ عودتي منها وفوجئت بأنه كلما أمسكت بطرف خيط لشخصية تاريخية أو نمط معماري لأثر أن الخيط يمتد معي إلي أماكن بعيدة من العالم ..
نزور الإمام الليث بن سعد فنجد أسرته قادمة من أصفهان فارس وتارة أقرأ للجبرتي فأعلم أن قبيلته جبرته قادمة من إريتريا وأرى أثراً لقوصون الناصري فأجد صاحبه قادم بأسرته من بخارى وأقرأ عن زين الدين كتبغا فأعرف عن قبيلته الأويراتية الوافدة من الأصقاع الآسيوية المغولية بهضبة التبت قبل أن تسكن منطقة الحسينية أمام أبواب القاهرة ..
أتمشى بباب اللوق فأتعرف على سكناه من قبل مغول القفجاق أيام بيبرس البندقداري .. أمر بالحسينية فأرى وكأن مغول الأويراتية قد نزلوا بالمكان من فوق خيولهم بألوف الأسر الشامانية والبوذية دفعة واحدة في عهد العادل زين الدين كتبغا .. أمر بمسجد أجد صاحبه محمد سكوبيه عالماً من مقدونيا البلقان أو بمسجد الملكة صفية (صوفيا بيلوجى بافو) فأجد أصولها الإيطالية من مدينة البندقية... وقباب للعلماء القادمين من المغرب والأندلس...
فضلا عن العلماء الزيالعة القادمين من شرق أفريقيا وكذا علماء تكرور القادمين من غرب إفريقيا وضمهم الأزهر الشريف في أروقة للطلبة والعلماء لأعراق وأجناس من كافة أنحاء العالم القديم.
لقد حضر أبناء العالم القديم إلى هنا .. وتركوا آثاراً وذرية ومنظومات قيمية واجتماعية تخبو وتقوى على نحو شكل هذا المجتمع القاهرى المعاصر وامتد إلى المحافظات والأقاليم من حوله... مزيج من قيم أهل النهر (النيل) وأهل البحر (المتوسط) وأهل الصحاري (العربية) وأهل السهوب والسهول (الآسيوية المغولية) ..
إنه التاريخ الحي والجغرافيا المعاشة.. ما يزيد عن خمسين عرقاً وجنساً وأكثر من عشرين مجموعة دينية وثقافية عبر الزمان والمكان جمعتهم القاهرة المدينة ومصر البلد وخلدت مقابرهم وقبابهم وآثارهم في المجمل ذكرى هذا التنوع البشري الذي ندر في حينه أن يتوفر في العالم لمدينة غير القاهرة... وانصهروا جميعا متحدين متباينين في آن فصاروا أهل مصر...
وتبدت روعة فنونهم الباقية على نحو خاص في مدافنهم وقبابهم ومدارسهم وخانقاواتها التي اعتنوا بجلب أمهر الشادين والبنائين لتشييدها خلال حياتهم لضمان روعة البناء.
وأختم ببيت شعر أبو العتاهية :
سألت الدار تخبرني عن الأحباب ما فعلوا..
فقالت لي أناخ القوم أياماً .. وقد رحلوا
No comments:
Post a Comment