Sunday, March 14, 2021

القرون المملوكية

https://www.facebook.com/mohamed.qadry


إنها المرة الأولى منذ زمن بعيد لكي أقرأ ملخصاً شافياً ووافياً للقرون المملوكية بكل التراكيب والمركبات والتعقد فيها ، ولعلي أدرك حجم الزمن والمطالعة والبحث والمقاربة والاجتهاد لصياغة هذا المقال .. وأتمنى أن ينمو ليكون مرجعاً للمساعدة على استشفاف العبر ودقيق المعاني مما يؤثر عميقاً في كلا من الحضارة والتحضر في المنطقة الاسلامية ، فليست الاسقاطات تعني بالقاهرة أو بغداد فحسب ، بل تشمل كافة المنطقة من ألطاي وإلى بني غازي ، وبالتالي يمكن الاجابة على التساؤلات التي تجوب أجيال الشباب والعامة حول ممراتهم باتجاه المستقبل ..


يلبغا وكتبغا وآقبغا وقطلوبغا ..
طرغاي وطرباي وقرطباي وقانيباي ..
بشتاك وقوصون وقلاوون وحسن ..
(حسن ... إيه الإسم الغريب ده!) ..
نماذج لأسماء طبقة الحكم والإدارة والجيش من جند وقادة وأمراء وسلاطين داخل قلعة الجبل المعروفة بقلعة صلاح الدين وما حولها من أحياء... وظلت مقرا لحكم مصر لقرون طوال من القرن الثاني عشر إلى القرن التاسع عشر.
إطلالة علوية على منشآت ميدان صلاح الدين
(أو ميدان الرميلة) حي الخليفة - القاهرة.
الصورة من أعلى سطح هذا المكان الجميل المعروف بمنزل حسن فتحي أو ببيت المعمار المصري بدرب اللبانة.

ملحوظة: هذه المشاركة الطويلة سبق نشرها وأعاود نشرها ببعض الإضافات.. وأرجو أن لا يكون هذا الأمر مزعجا لمن سبق له قراءتها من الأصدقاء ... هاحاول اكتب عن الفاطميين شوية بعد كدة
تحياتي - محمد قدري
منذ حوالي عشرين عاما سألت صديقي الأستاذ الجامعي الياباني "ساتاكي سن" عن الساموراي وأين ذهبوا بعد التحديث على النمط الغربي .. فأجاب "نحن أحفاد هؤلاء الساموراي غير أننا قصصنا شعورنا الطويلة وارتدينا ثيابا غربية".
ثم ذهبت إلى الهند لمدة شهرين نهاية عام ٢٠١٨ فرأيت آثار سلطنة مغول ومماليك الهند " سلطنت غلامان" .. وتذكرت آثارهم بالقاهرة .. وتساءلت أين ذهب هؤلاء!


الخليفة... هذا الحي القاهري العريق يمثل جزءا هاما من تراث "السلطنة المغولية القاهرية" مرورا من الحطابة وباب الوزير والدرب الأحمر مخترقا باب زويلة والمعز حتى باب النصر وباب الفتوح وشارعي الصليبة والسيوفية وأحياء الحسينية والظاهر وباب الشعرية وغيرها .. ناهيك عن الحواري والأزقة والدروب ذات التاريخ والأسماء المعبرة كدرب الأغوات ودرب الحرافيش ..
وما سبق مرتبط جغرافيا في أحداثه بفلسطين وحلب ودمشق وغيرها من المدن حتى بغداد العباسية خاصة بعد استضافة بيبرس البندقداري للخلافة العباسية الثانية بالقاهرة (فسمي الحي بالخليفة تيمنا بوجود الخليفة العباسي القاهري) وذلك إثر تدمير المغول لبغداد .. بل والممتد معنويا وعرقيا و ذهنيا حتى "نظيرتها الهندية" في شمال الهند وأفغانستان والتي تسبقها زمنيا وتفوقها عمرانيا.
لم ينته الأمر بتدمير بغداد أو هزيمة المغول في عين جالوت كما قد يظن البعض .. بل ظلت أنفاس جنكيز خان حاضرة واستمر التفاعل المغولي عبر الخانات والإلخانات والخاقانات بانيا لعمارة مذهلة وممارسا لفظاعات إنسانية متوحشة وحاملا لمنظومة قيم مربكة قبل وبعد إسلامهم وما يعنينا هنا أنهم قد صبغوا لدينا نهر النيل والبحر المتوسط (مصر والشام) بصبغة مغولية آسيوية قوية.
فكلا من دلهي المغولية والقاهرة المملوكية/ العثمانية وما بينهما كان انعكاسا قويا لتراث أعراق وسط آسيا المعماري والفكري والثقافي العام لكل من عجم الفرس والتركمان والترك ومن انضوى تحتهم من أعراق (ونسمهم جميعا بالمغول تيسيرا)
هنا القاهرة حيث ينتهي طرف القوس الذي ينفرج حتى طرفه الآخر في دلهي مارا بأصوله وكثافته المتغيرة في بلاد الطاجيك والكازاخ والأوزبك والأفغان مرورا بباقي بلاد "ستان" ومدنها العظيمة بلخ وسمرقند وبخارى وغيرها وانتهاء بألطاي.. حيث يمر بالمرآة السحرية الصغرى للقيم ورؤية العالم في بغداد (ملتقى العرب والعجم) ثم بالمرآة السحرية الكبرى في الهند فتتغير أسس منظومات القيم ورؤية العالم بين الخط المستقيم والدائرة وما بينهما من أقواس.
هكذا.. ثم يكمل القوس رحلته ذهابا وإيابا بهجرات بشرية آسيوية بزاوية انحناء أصغر فيمر عبر خط دمشق القاهرة منهيا رحلته بسلام على ضفاف النيل بعد أن مر بالتراث البشري لسكان أودية للأنهار وسواحل بحار وبواد جبلية وصحراوية آسيوية وعربية ليوزع نتيجة آثاره النهائية في مصر وتاريخها وأعراقها على أهل النهر الوادعين وأهل البحر المنفتحين وأهل صحراء العرب في الصعيد لتصبح صبغته الرئيسية في القاهرة وبعض الدلتا آسيوية مملوكية مغولية في تراث العمارة والفنون والطباع والسمات الإنسانية كما وصفها المؤرخون القدامى...
وذلك بعد أن تتلطف الطباع قليلا بفعل تأثير النهر والبحر فتتغير مثلا عادة توثيق علاقات الولاء والزمالة (الخشداشية) بمزج دم صاحبي العلاقة باللبن وشربهما له كما فعل جنكيز خان مع رفيق دربه جاموخا إلى الاقتصار على قسم الولاء الذي لم يتم الحفاظ عليه غالبا غير للأستاذ المربى فقط بينما كثرت خيانات الاتباع للسلاطين وغير ذلك وفقا لقاعدة "من غلب"... وجنكيز خان نفسه قتل جاموخا رفيق دربه بما يذكر بقتل بيبرس لقطز في سياق تاريخي آخر.
تراث وممارسات وأعراف بل وأكلات حفظتها الجدات والأمهات في منظومات قيمية وأخلاقية ونقلتها إلى الأبناء والبنات ونجد آثارها حتى الآن في ممارسات اجتماعية وثقافية متعددة حيث ينصهر الجميع في مصر بتراثهم من قبط ويونان وعرب وسودان وكرد وتركمان وأبخاز وتتر وترك وشركس وأحباش وبربر وأرمن وغيرهم في فسيفساء وجينات المصريين المحدثين ومنظوماتهم القيمية الرئيسية الأربع (النهرية/ البحرية/ الصحراوية/ الجبلية والسهوب المغولية) في صورة واحدة بألوان متماهية ومتباينة في آن واحد.
عالم يضم قصورا ومنازل وأسواق.. مساجد وخانقاوات وتكايا ..قباب وأضرحة لسلاطين ووزراء وأولياء وشعراء.. فقراء وأغنياء و"فقراء" ودراويش ومجاذيب ومتسولين .. تراث إنساني عرفاني إسلامي عربي وأعجمي مختلط بالمعتقدات الشعبية الهندية والمغولية الشامانية وصولا للبوذية التبتية (قبيلة الأويرات التبتية المغولية التي سكنت حي الحسينية في عهد العادل زين الدين كتبغا وبلغ عددها ١٨ ألف أسرة) وممارسات غجرية (من الجت وراجستان الهندية) .. تحدث وكتب أصحابه باللغات العربية والفارسية والأردية والهندية والتركية وغيرها من اللغات واللهجات.. بل وباللغة المغولية ذاتها كذلك (مثال : تراث حياة محمود بن محمد يلواج حاكم الصين المدفون ببكين والذى عمل سفيرا لجنكيز خان لدى الخوارزمية وابنه مسعود بك) .
عالم واحد واسع نجد فيه نماذجا لمجموعات بشرية تجولت عبر التاريخ زخات زخات عبر العالم الإسلامي وعلى طريق الحرير حملت تراثا إسلاميا عريقا تشوبه على المستوى الشعبي المعتقدات الشامانية وطباع بداوة وسط آسيا وقساوتها ومنظومة قيمها وشكل ثقافيا أرضية التراث الشعبي لعناصر وقصص ألف ليلة وليلة الذي تنتهي قصته الأخيرة في القاهرة بقصة معروف الإسكافي وكأنها تتبع مسار القوس المذكور.
عالم يتجاور فيه الأحياء والأموات يتفاعلون بهم ويحيون تراثهم وذكراهم وتبالغ بعض الممارسات الشعبية في ذلك لتصل إلى أشكال متنوعة من التبجيل والتقديس فيما يشبه بعضها ممارسات شعبية شامانية وهندوسية وبوذية مختلطة بالمفاهيم الإسلامية كما تتجاور على مستوى التطبيق شرائع وأعراف وقواعد اجتماعية قديمة قدم تاريخ وتراث هذا العالم الجغرافي الواسع.. ومنصهرة حتى عصرنا الحاضر .. ولكن برغم ذلك يمكن تتبع خيوطها عبر المكان والزمان ببذل بعض الجهد.
من القاهرة إلى دلهي ...
مماليك هنا وهناك (بأس وغدر.. عمار ودمار) :
أسماء وسير نعرفها أو نعرف من يشبههم لأعراق في القاهرة المملوكية والعثمانية بل وفي المخيلة الشعبية التي أنتجت "ألف ليلة وليلة" .. نرى في سيرتها سمات عناصر البداوة الآسيوية التي ينفرج "قوس قيمها" عجبا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار فنراها تارة تنعم بها شعوبهم وتارة أخرى نراهم قد أحلوا قومهم دار البوار.
تفاجئنا شعوب السهوب والجبال الأعجمية المحاربة في غرب ووسط آسيا - نحن شعوب النهر والصحراء والبحر من مزارعين وعرب وتجار - بطبيعتها الفوارة المتحمسة ذات "البأس الثائر" أحيانا كثيرة و"الغدر البائس" أحيانا أخرى.. زهد باهر وتقشف في جانب وانتهاب سافر للملذات في جانب آخر.. عمار كامل ودمار شامل .. سلاطين وأولياء.. نساك وعرابدة.. إفراط وتبجيل شاماني للزهاد والمجاذيب وتفريط سلطاني في حق العلماء والطلاب. (تاريخ بغداد العباسية نموذجا).
وبتقليب صفحات التاريخ نرى هذه الحالة المميزة للسمات الشخصية والخصائص النفسية للمماليك والمتشبعة بالمنظومة القيمية لأعراف ونمط البداوة المغولية القاسية في منطقة وسط آسيا وشمال الهند..
خاصة الاتسام بداء المغالبة وعدم مهابة الموت والاستهانة بالحياة البشرية والسعي الحثيث للسلطة وانتهاب الملذات والاتصاف بالبأس واستملاح الغدر والإمعان في انتهاك وإذلال الخصم المغاير والفتك به بطرق وحشية كالتكحيل والتوسيط وغير ذلك.. والنهم البالغ للثروة والمال مع تغليف كل ما سبق بنمط تدين آسيوي مغولي يحمل العناوين الإسلامية المختلطة بالتصورات الشامانية الشعبية الأعجمية المتوسعة للغاية في مفاهيم العين والسحر والحسد نظرا للثقافة المغولية التي تبجل عالم الأرواح على الطريقة البدائية وتخشاه.. وهو ما يخرج لنا هذه الشخصيات المربكة لنا عندما نحاول أن نفهم سلوكها وفقا لأنماط مغايرة عن طبيعتهم وأعرافهم المغولية الثائرة الفوارة المفاجئة في ردود أفعالها.
نرى أن مسار الفكرة ومنتجها البشري بدأ بجنكيز خان وتراثه الذي اختلط لاحقا بالعروبة والإسلام والثقافات النهرية الزراعية الوادعة والبحرية التجارية المنفتحة بفعل التوسعات المغولية العسكرية والهجرات الجماعية للمغول الوافدية والقبائل الآسيوية الأخرى بفعل الحروب والنزاعات والاوبئة في شرق ووسط آسيا وحرص القاهرة على الحفاظ على هذا الخط من الإمدادات البشرية وحمل تراث البيت الجنكيزي عبر المصاهرة والتحالفات وغير ذلك (بيبرس والمنصور قلاوون وابنه الناصر محمد بن قلاوون نموذجا)
خط إنتاج فكري بشري مر عبر طريق الحرير وغيره يعبر من ألطاي ويجمع دهلي وغزنة وبلخ وبخارى وسمرقند وتبريز وشيراز وأصفهان وقونية وبغداد وماردين ودمشق والقاهرة ينتج مدارس سلطانية وعرفانية وشرعية وفكرية وفلسفية تجمع بين الإسلام أساسا كدين (وفكر وثقافة شاملة) من جهة وفلسفة اليونان (المستوردة) وحكمة فارس وإشراقة الهند وبأس الترك وفروسية الكرد وصمود التركمان وعامة ثقافة شعوب غرب ووسط آسيا المعتنقة للإسلام من جهة أخرى.
ينتظم عبر سبحتها شخصيات ومدارس مثل شمس الدين التبريزي وجلال الدين الرومي مرورا بالحلاج والسهروردي وصولا إلى بن الفارض في القاهرة متقاطعا مع الحسن البصري وأحمد بن حنبل وتقي الدين بن تيمية والقاضي بكار القرشي ويربطهما البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم ممن لا يتسع المقام لذكر أسمائهم رحمهم الله جميعا وذلك في بغداد ودمشق والقاهرة والإسكندرية .. ينفعلون بحوادث التاريخ وتقلب الدول والممالك كما ينفعل بهم شعوب بلادهم حبا أو كرها.. تبجيلا وتعظيما أو إنكارا وإهمالا.
هذا الإطار القيمي لازم لفهم أحداث تاريخية وجدل ثقافي وديني وسياسي مستمر عابر للزمن وحين تنزع من سياقها تحدث اضطرابا وتشوشا في الفهم والإدراك..
إطار ضم العز بن عبد السلام وقطز وبيبرس.. وكذا بن تيمية مع الناصر محمد بن قلاوون وأحداث عصره ومحمود غازان وغيره.. وجمع بن خلدون مع تيمور لنك وفرج بن برقوق وحوادث زمنه.. إطار أنتج إشراقات أعجمية وثنائيات الشريعة والحقيقة والسياسة الشرعية والياسة.. و حالات الجمع أو الفصل أو الخلط الجزئي الحر بالهوى الفردي أو بالعرف الجماعي بين العقيدة والعبادات والمعاملات والأحكام والأخلاق والسلوك وغير ذلك من الأمور ... فلزم ابتداء فك الاشتباك.
نجد أن الشخصيات المملوكية التاريخية مركبة ومربكة تحمل من فنون القسوة المفرطة والاستهانة بالحياة الإنسانية وروابط الدم مالا نستطيع أن نفهمه ونستوعبه (التيموريين والجراكسة نموذجا) .. يكثر في التاريخ أن تكون عاقبة تلك الشخصيات وذريتها حادة كطباعها.. كأن يعقب نهب المال طمسه بالكلية ومحاولات الإكثار في الذرية لحفظ السلطان بتره وإفناء الذرية (الخوارزمية نموذجا) .. ولا يظلم ربك أحدا.. تاريخ عجيب وملهم للعبرة والاعتبار لمن كان له قلب وألقى السمع وهو شهيد.
كتب عن سماتهم الشخصية المؤرخون القدامى مثل المقريزي والسخاوي وغيرهما لدى وصفهما لتلك الأعراق وصفات بعض ممثليها ممن قابلوهم وعايشوهم بعبارات بدت لي مضطربة قديما ولكني أجدها كاشفة ودقيقة جدا الآن مثل قولهم "حسني الصورة قليلي الدين عفشي الأخلاق" .. "جميل الصورة قليل الأذى" .. "بارع الجمال فيه حشمة ومحبة للعلماء منهمك في الملذات" وغير ذلك من الوصف الغريب والمعبر عن الشخصيات المختلفة المركبة.
ونختتم هذه المشاركة الطويلة بمعاني عدد من الأسماء :
(بغا يعني : ثور .. وما يلصق بها أوصاف للثور)
كتبغا : الثور الضخم/ قطلوبغا : الثور المبارك
آقبغا : الثور الأبيض/ آسينبغا : الثور القوي
الطنبغا : الثور الذهبي - الثور المثير للإعجاب
يلبغا : الثور الشجاع
قجماس: الشجاع (الذي لا يهرب)
قرقماس : الشجاع (الذي لا يخاف)
أقطاي : المهر الضخم/ طرباي : أمير ضخم البدن
طرغاي : اسم طائر
طومان باي : أمير فرقة عسكرية (طومان : فرقة عسكربة)
قاني باي : أمير الدم (كناية عن القوة)
قايتباي : أمير قائد (قائد بيه)/ قرطباي : أمير ذئب
شكرا جزيلا على التكرم بالقراءة برغم الإطالة.
تحياتي وتقديري.

No comments:

Post a Comment