"في مصر .. تبدأ أوروبا عند الإسكندرية وآسيا عند القاهرة وإفريقيا عند أسوان .. قطعة من إفريقيا .. لكنها بضعة من أوروبا .. غير أنها إلى ذلك .. آسيوية .. آسيوية التوجيه والتاريخ والتأثير والمصير .. إنها بآسيا .. وإليها."
(الدكتور جمال حمدان رحمه الله).. بتصرف يسير
تنبيه.. حتى لا نضيع وقتكم الثمين:
إذا سبق لكم قراءة هذا المنشور الطويل فلن تجدوا جديدا.
إنما هي كلمات نكررها في حب تاريخ وتراث القاهرة النابض بالحياة.. هذه المدينة العظيمة... لعلنا نعرفه فنحبه... ونحبها.
الصورة من أمام "قبة الخلفاء العباسيين" بمقابر السيدة نفيسة بالقاهرة..
هنا دفن ستة وثلاثون خليفة من الخلفاء الإسميين الرمزيين الذين لم يتسن لهم الحكم الفعلي في الدولة العباسية الثانية التي أقامها بيبرس البندقداري بالقاهرة لتعود القاهرة ومصر مركزا للعالم الإسلامي منذ انهيار الدولة الفاطمية (راجع المشاركة السابقة) بدلا من كونها ولاية تابعة وذلك حتى دخول العثمانيين عام ١٥١٧ م.
وارتكن بيبرس ومن تلاه من حكام المماليك على شرعية هذه الخلافة الإسمية بعد تدمير المغول لبغداد.. وعلمنا الدكتور عادل غنيم عادل غنيم حفظه الله أن الخليفة العباسي السابع والثلاثون ربما يكون مدفونا خارج القبة في المقبرة الخضراء الواضحة بالصورة.
خواطر متفرقة عن القاهرة المغولية ...
تأثيرات أنفاس تيموجين بن ياسوكاي (جنكيز خان) وتراثه المتحرك من منغوليا إلى القاهرة.
فنبدأ بسم الله ونقول إن التأثيرات الآسيوية المغولية ومنظومة قيمها والمداخل الاجتماعية والعرقية ومنظوماتها القيمية تحتاج إلى مزيد من الوعي للتمكن من فهم عدد من الظواهر الإنسانية والتاريخية لدينا... وإغفالها أو عدم الاهتمام بتفاصيلها لا يؤدي إلا إلى ارتباك الفهم نظرا للقياس الخاطئ على منظومات قيمية واجتماعية ودينية وأخلاقية غير قابلة للتطبيق في الحالات محل مراد التفسير.
فقد انفجرت حمم البركان البشري في شرق وقلب آسيا خلال القرن الثالث عشر مع هجوم جحافل المغول بقيادة جنكيز خان مدفوعة بشغف ونهم رهيب إلى القتل والقتال وفي ظاهرة تاريخية فريدة في القسوة والوحشية التي تستهين بالحياة البشرية ولا تعرف لها أي حرمة وتستمتع جماعيا بسفك الدماء وامتهان الخصوم..
كانوا بشرا لهم تكوين نفسي وسمات شخصية مبهمة غامضة تبدو لنا حادة مضطربة وأصحاب همة عالية لا يدرك كنهها سنحاول كشف الستار عن بعضها.
بعد أن دخلوا الصين وأرسوا دعائم دولة المغول الفتية وعاصمتها قراقورم ووسعوا نظام شورى نخب المغول (القوريلتاي) وكونوا وفقا لسياسة جنكيز خان وقواعده المبجلة لديهم والمعروفة بالياسة نظام الجيوش المعتمد على تنظيم الكتائب والفصائل واعتماد نظام ولاء الدفعة/ الخشداشية والطاعة المطلقة وإزالة الانتمائات القبلية المغولية والتترية... ونظموا البريد وأمنوا سبل التجارة وعقدوا الاتفاقيات التجارية لتأمين المعاملات في عهد الخان.. وغير ذلك من دعائم دولتهم سياسيا وتشريعيا واجتماعيا واقتصاديا وتجاريا مع الاحتفاظ بقساوة الطباع ووحشية الممارسات كأحد السمات الواضحة لهم مثل التوسيط والتكحيل والتسميل وقطع الرؤوس والامتهان والإمعان في الإذلال بينهم وبين بعضهم فضلا عن بينهم وبين الأغيار.
ولكنهم بدأوا في غزو عالمنا بتدمير الخوارزمية في مدينة "أترار" انتقاماً من حادثة قتل لتجار من رعايا المغول (أغلبهم من المسلمين من رعايا الخان) بعد طمع حاكمها المحلي في بضاعتهم واستيلاءه عليها فبعث جنكيز خان برسالة لتسوية الأمر بشكل ودي بجهد مشكور من محمود بن محمد يلواج "الخوارزمي" سفير جنكيز خان ووزيره الحكيم العاقل المتقن لعدة لغات من بينها العربية والمغولية (مع الفارسية والهندية والتركية) .. وقابله رد أحمق ممتلئ بالصلف والغرور من علاء الدين محمد خوارزم شاه وهو ما كلف العالم ملايين من الضحايا إثر انسياح المغول في الأرض بعد ذلك.. وربما كانت رسالة جنكيز خان الموثقة باللغة العربية التي ذكر فيها أنه "غضب الله في الأرض" كتبها نفس السفير المذكور ("يلواج" تعني السفير بالخوارزمية) وجدير بالذكر أن الدولة المغولية ظلت تعتمد عليه في عهد خلفاء جنكيز خان حتى وصل السفير محمود يلواج لحكم الصين ودفن في بكين وكذلك واصل ابنه مسعود بك خدمة الدولة المغولية لاحقا.
(قد يشبه هذا في عواقبه حادثة اغتيال الجندي الصربي لولي عهد النمسا مفجراً للحرب العالمية الأولى) ..
ومع سقوط المدن والحواضر تباعا اكتشف هؤلاء البدو المغول ذوي البأس والقسوة الوحشية القادمين من أقاصي السهوب مدى قوتهم الباطشة ومدى ضعف العالم من حولهم وثراءه فانطلقوا لغزوه ..
فثنوا بالترك القفجاق والروس ودخلوا كوريا والصين مدمرين للعاصمة بكين وهناك بدأوا كتابة تاريخهم الشفهي في نص يعرف باسم "التاريخ السري للمغول" وقتلوا الملايين في وسط وغرب آسيا وفي مرو وبلاد فارس وأغرقوا بغداد في دم أهلها واكتسحوا شرق ووسط أوروبا فيما لا يزيد على ثلاثة أيام متغلبين على جيوش ذات بأس في بولونيا والمجر وألمانيا برغم الإمدادات الإيطالية والفرنسية..
كما حاولوا غزو اليابان مرتين وأرسلوا لهم رسلا للتهديد وبث الذعر كمقدمة على عادة المغول .. وقد سمعت في أحد المحاضرات باليابان أن عددهم كان ثلاثة عشر مبعوثا واللافت أنه كان بين رسل المغول شخصين مسلمين فيما يعتقد أنه أول تواجد لمسلمين على أرض اليابان وفقا لأحد الباحثين اليابانيين (وكان ذلك في توقيت قريب من الرسل الموفدة للقاهرة والذين قتلهم قطز وعلق رؤوسهم على باب زويلة) غير أن رياحا عاتية قد حطمت سفن المغول في المرتين فأسماها اليابانيون "الكاميكاز" أو الرياح المقدسة .. وهو المسمى الذي أطلقوه لاحقا على طياريهم الانتحاريين خلال الحرب العالمية الثانية تيمنا... بل حاربوا كذلك في الهند وبورما وفيتنام وإندونيسيا وغيرها مكونة بذلك أكبر إمبراطورية في التاريخ من حيث المساحة في العالم القديم قبل اكتشاف الأمريكتين وأستراليا.
وبهذه الدفعة المغولية الهوجاء وإلى القرن الخامس عشر عند دخول العثمانيين تحركت شعوب وأقوام وقبائل آسيوية نحو حوض البحر المتوسط ومصر .. وحتى بعد إسلام طوائف كبيرة من المغول والتتار احتفظوا بتلك السمات النفسية القاسية الدموية والمربكة لنا عند محاولة فهمها عبر هذه الفترة التاريخية .. ومن ذلك تكرر قتل الإخوة لبعضهم في سبيل السلطة والثروة بل وحتى قتل الأب لابنه (مثال المؤيد شيخ وابنه إبراهيم الصارمي في القاهرة)... وحملات محمود غازان على الشام وكذا تيمور لنك وارتكابه لنكبتي دمشق وحلب بعد فظائعه في تبريز وأصفهان .. وحمدا لله لم يدخل هذا السفاح الدموي إلى مصر وسلم الله أهلها من شره المستطير.
لقد أعلوا في أغلب الأحوال أعرافهم البدوية المغولية وقوانين جنكيز خان المعروفة ب "الياسة" وساد نمط تدينهم الشاماني على ما عداه فكانت البنى الثقافية الأخرى التي انتموا إليها - عن قصد أو غير قصد- أشبه بأردية أو أغطية فوقية ظاهرية لهذه الأعراف والقوانين ونمط التدين المغولي المتجذر في نفوسهم والباقي عبر الزمن ضمن النظم التربوية الأسرية ومنظوماتهم القيمية وأساليبهم في رؤية العالم والتعامل مع المجتمع المحيط ... نرى ذلك مع محمود غازان وتيمور لنك وغيرهما .. بل حتى أسرى المغول في الهند في زمن علاء الدين خيلجي كانوا يعتنقون الإسلام بشرط عدم التقيد بأحكامه والاستمرار في أعرافهم الملزمة وقوانينهم الجنكيزية المبجلة ...
وتشهد على ذلك كذلك نمط العلاقات والنزاعات بين أحمد تكودار بن هولاكو وبني قومه من المغول ومراسلاته مع الناصر محمد بن قلاوون قبل أن يقتله خصمه أرجون .. ودموية تيمور لنك وارتباك المواقف العقائدية في حملات محمود غازان التي أسفرت عن الفتاوى التيمية التي اتسمت بالصرامة الشديدة لمواجهة الواقع المغولي الجديد وسياقاته المفزعة في ماردين وغيرها مساندة في حينها لجيش مصر بقيادة الناصر محمد بن قلاوون وكذا جيش الشام ضد جيش غازان الغازي.. كما أنتجت تراثا فكريا ملتبسا لشخصيات مثل نصير الدين الطوسي ورشيد الدين الهمذاني دخلت تحت السلطة المباشرة لهولاكو في إيلخانية فارس وغيرهم من الشخصيات التاريخية.
وغير ذلك من الأحداث التاريخية العديدة ذات الظلال والأحداث المتشربة بالأنفاس والقيم المغولية المتسمة بداء المغالبة وانتهاب الملذات حتى الثمالة والوحشية السادية وامتهان المخالفين لدرجة الهوس مع الاحتفاظ برهبة شامانية والتعلق برؤى السحر والحسد على النمط الموجود في تصوراتهم الدينية لدى حياتهم الأولى بالسهوب المغولية قبل انسياحهم في ربوع الأرض مجتاحين البلاد وقاتلين للملايين من شعوبها (ومن ذلك فزع جيش المغول المتوحش ورهبته من حشود الدراويش العزل بزعامة محمود التارابي الذين ما زادوا أن حثوا التراب في وجوههم بدون سلاح) .. وأدلة ذلك من التاريخ ربما تضيق عنه هذه المشاركة التي طالت.
وقد شوهد ما يشبه ذلك في مصر في باب اللوق زمن بيبرس البندقداري في المجتمع المغولي من وافدية القفجاق (عشرة آلاف أسرة) الذين توسط لهم بركة خان لدى بيبرس بعد فرارهم من هولاكو خان.. وقد استقبلهم بيبرس وأوجس منهم ولم يسمح لهم بالاختلاط بالمصريين وأسكنهم في معسكر مغلق بباب اللوق..
وما هو أكثر من ذلك باستقبال العادل زين الدين كتبغا لقبيلته الأصلية قبيلة الأويرات القادمة من هضبة التبت بزعامة مقدمهم طرغاي (ثمانية عشر ألف خيمة/ أسرة) ممن امتازوا بحسن الصورة والمظهر حتى افتتن الناس بهم على حد قول المقريزى وكذا بالمهارات القتالية الفائقة مما جعلهم يتبوؤوا كافة المناصب العليا بالدولة مما أحنق وأسخط عليهم أمراء المماليك.
بيما ظل الأويرات على اعتقادهم الشاماني المغولي والبوذي التبتي بعد أن سكنوا أمام باب النصر في حي الحسينية إلى باب الشعرية.. حتى إذا دخل رمضان لم يصم منهم أحد في هذا الحي وكانوا يأكلون الخيول بعد ضربها وغير ذلك مما جعل الناس يأنفون من الجلوس إليهم على قول مؤرخي العصر.
ومن جراء ما تقدم انهمرت على مصر والقاهرة خلال تلك الفترة وفود وهجرات اللاجئين والأسرى الآسيويين في موجات متفرقة عبر الزمن وكونت موردا رئيسيا للتجمعات المملوكية المغولية في القاهرة وعدد من محافظات الدلتا وأعداد أقل في الصعيد من الفارين منهم بسبب الخيانات والمؤامرات البينية المتكررة ولم يلبثوا هؤلاء أن خلعوا ثياب المماليك وارتدوا أزياء أهل الصعيد من الجلباب والعمامة ... حيث كان التكوين الرئيسي لسكان الصعيد من القبائل العربية (خاصة ذات الأصول اليمنية) أو الهوارة الأمازيغ أو الأشراف المنتسبين إلى البيت النبوي بفرعيه الحسنى والحسيني.
يقول الأستاذ صبحي وحيدة في كتابه القيم "في أصول المسألة المصرية" أنهم شكلوا شكلا غريباً من أشكال "الغزو السلمي" إذا صح التعبير فهي شعوب فتية تتطاحن فتتناثر أشلاؤها خارج الحدود وتتجمع وتربو حتى تغمر البلاد التي تجمعت داخلها كما لو دخلتها فاتحة محتفظين أثناء ذلك بمميزاتها العرقية من شغف بالقتال وشدة بأس وقوة احتمال"
لقد حضر المغول إلى مصر من بلادهم بأنماط الولاء والعهد الآسيوية وعلاقات الأستاذية/ السيادة- الأبوة بالتبني البدوي المغولي التي تتشابه في بعض عناصرها مع الرق مع مظاهر الخضوع والتذلل والانحناء الذي يشبه الركوع وتقبيل الأيدي والأرجل وبذل الحياة خدمة لسيدهم.. بل وخشية السيد البشري والامتثال لأوامره أكثر من خشية الله عز وجل والخضوع لأحكامه .. فاستشكل وصفهم بوصف الأرقاء أو العبيد، بالإضافة إلى علاقات الخشداشية/ الزمالة واستمراء ما تم من خيانات وغدر واستقرارها بل واستملاحها بينهم كقواعد مرعية على طريقة السهوب المغولية بشكل يثير لدينا الارتباك ويستعصي على الفهم عند تقليب صفحات التاريخ بالمنظور القيمي لأهل النهر والبحر بل وحتى بالمنظومة الصحراوية البدوية العربية التي قد تعتبر قريبة منهم بحكم البداوة...
وجدير بالذكر أنه لم يكن لدى المغول أي استثناء لقواعد الغدر ونقض العهد المستساغة لديهم على أي مستوى من الأبوة أو البنوة أو الأخوة البيولوجية أو السلطنة أو القيادة وغيرها من المنازل التراتبية إلا لمن تمتعوا بمنزلة الأستاذية/ الأبوة التربوية التعليمية من المملوك على نحو يدعو للعجب حيث لا أعلم حالة خان فيها المملوك أستاذه.
وظلت العلاقات بين المماليك والعرب/ العربان في مصر ملتبسة تقتضي أحيانا التعاون في جلب قبائل عربية للقتال بجانبهم مثل عرب الخصوص بالقليوبية أو للخدمة مثل عرب اليسار بمنطقة السيدة عائشة بالقاهرة أسفل قلعة الجبل .. أو التدمير الشامل مثل إبادة أخميم وجرجا بالمدافع المجلوبة من روسيا القيصرية في عهد علي بك الكبير الروسي الأصل ومحمد بك أبو الدهب التركي الأصل خلال نزاعهم مع الشيخ همام الهواري الأمازيغي الأصل باعتباره زعيم الصعيد وقبائله العربية .. أو الخيانات الفردية كخيانة حسن بن مرعي من عرب البحيرة (بالإضافة طبعا لخيانة خاير بك الجورجي الأصل) للسلطان طومان باي وتسليمه للعثمانيين.. وحتى استمرار التباس علاقات مماليك مصر (وممثلهم شيخ البلد المسيطر فعليا) مع وجود وال عثماني بين روسيا القيصرية والدولة العثمانية خاصة في عهد علي بك الكبير في مصر ومصطفى الثالث في الأناضول حتى مجئ الوالي محمد علي ليزيد إلى البعد الآسيوي الشرقي بعدا أوروبيا غربيا جديدا مع دخول الصراع الفرنسي الإنجليزي على الخط بالتوجه نحو فرنسا وتراجع البعد الإنجليزي مع انهزام محمد بك الألفي إلى حين دخول الإنجليز لمصر عام ١٨٨٢ ثم تشكيل عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية وتصدر الولايات المتحدة للمشهد.
كانت زيارتي للهند لمدة شهرين منذ عامين سببا في الاستنارة وكشف الغطاء وفرصة مناسبة لاعادة اكتشاف هذه الموضوعات من زاوية أقرب .. ربما لوجود ملامح مشتركة بين البلدين.. حيث يشترك تاريخ مصر مع جنوب آسيا (الهند والسند) في ملامح تداخل العنصر العربي ثم العنصر المغولي مع المجتمع الزراعي النهري الذي يمتلك تراثاً روحياً سابقا ..
كانت البداية في اكتشاف التشابه اللافت في الأسماء لمماليك الهند ومصر (غير أنهم في الهند أسبق تاريخيا بسبعين سنة) مثل قطب الدين أيبك (باني قطب منار بدلهي) وعز الدين أيبك (التركماني) ربما لانتماء الاثنين لنفس المنطقة أو المجموعة الجغرافية في شمال أفغانستان (أيبك).. وكذا التشابه العجيب في الشخصيات والسير والأحداث مثل "رضية سلطانة" وفيروز شاه في الهند و"شجر الدر" وتوران شاه مثلا في مصر..
شئ يدعو للانتباه والتأكد من تماثل المنظومات القيمية وأساليب رؤية العالم والتعامل مع المجتمع المحيط لهذه الأعراق الآسيوية الحاكمة (والتي نسميها جميعا بالمغولية تيسيرا) والمكونة لطبقات الأجناد والأمراء وكذا امتدادا للتشابه بين "المشايخ المعتقدين" لدى هذه الطبقات المملوكية العسكرية وكأنها امتداد لعقيدة الشامان المختلطة بعقائد الإسلام ..
وذلك أسوة لخلطهم قوانين الياسة وقواعد وقوانين جنكيز خان بالشريعة الإسلامية وأحكامها وهو ما تسبب في ارتباكات وصدامات فكرية وفقهية مستمرة عبر الزمن ما زلنا نرى آثارها من القرن الثالث عشر حتى القرن الحادي والعشرون متأثرة بممارسات تاريخية للثقافة المغولية لبيبرس ومحمود غازان وتيمور لنك وغيرهم من المغول المسلمين...
وللإنصاف نقول أن مغول الهند ومماليكها بلغوا من القسوة مالم يبلغه مغول مصر ومماليكها وكذا من الانحراف العقائد إلى حد ابتكار كلي لما يسمى "الدين الإلهي"وهو الخليط الموضوع بأمر جلال الدين أكبر.. والتغيرات العكسية الكبرى في عهد أورنكزيب وغير ذلك من الأحداث التي لا يتسع المقام لذكرها..
ربما لاقتراب الهند الجغرافي من مادة الثقافة الخام للمغول في بلاد "ستان" مع ما تتميز به الثقافة الهندية وأديانها الدارمية ذات "الطابع الدائري" من أبعاد مغايرة.. وفي اختلاف واضح مع الحالة المصرية القريبة من المصادر العربية بشكل مباشر وثقافتها التاريخية ذات "الطابع الخطى".. والذى ربما انثنى وانحنى ليصبح "قوسا" مع دخول المغول لمصر.
ومن ذلك المقارنة لدى أغلب سلاطين المماليك بين مكانة "الشيخ المعتقد" التمتع بالتبجيل والمكان ورهبة الجانب.. خاصة من مشايخ العجم ذوي الأحوال والزهد من الكرد والتركمان والفرس في مقابل الشيخ الفقيه القاضي العالم بقواعد الشريعة من العرب والعجم.
ومع الإشارة لسبق تكوين سلطنة المماليك في الهند وأفغانستان تحت اسم "سلطنت غلامان" على تكوينها في مصر بحكم القرب الجغرافي للهند .. مع تميز مصر بالقرب الجغرافي من أوروبا ثم يعود ويشترك في الجزء الخاص بالاحتلال الانجليزي لاحقا كوارث أوروبي لسلطة المماليك المغول.. بينما شكلت روسيا القيصرية والاتحاد السوفيتي ثم روسيا الاتحادية لاحقا وارثا آخر لسلطة المغول في وسط آسيا.. إلى أن بدأت الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تظهر على الساحة كوارث جديد لهذا الإرث المغولي المشرقي بدءا من الشرق الأوسط.
لقد تم الخضوع للسادة الجدد وذلك على نحو أخفى عن العيون وأبعد عن الوعي والإدراك المنظومة القيمية المغولية بعد تواريها ضمن منظومات الحداثة والدولة الوطنية والقومية المعاصرة والقوانين الغربية والنزاعات الرأسمالية والشيوعية والاشتراكية والمذاهب الفكرية الحديثة والمدارس المحلية الأنجلوفونية والفرانكفونية وغير ذلك...
وامتدت كذلك لصبغة النزاعات المذهبية المتوارثة بين المدارس الفكرية والمجتمعية الإسلامية بسبب ما دخل من شوائب وممارسات تحمل أعراف القوم بل الأقوام .. بل ربما لا يمكن فهم بعض الممارسات الشعبية التي نقرأ عنها والخاصة بتبجيل المجاذيب أوالدراويش العراة الذين يظهرون في ثنايا طبقات الشعراني (بغض النظر عن مدى صحة نسبتها إليه فهي ليست محل التحقيق والنقاش) بدون ربطها بكونها صدى للهجرات الآسيوية المتأثرة بالمعتقدات الشامانية والجينية في أقصى الشرق بعد أن تم إعادة صياغتها والتعبير عنها بالعربية بدلا من لغتها الأصلية وهي تحمل إشراقات أعجمية مبهرة في تفاصيل كشفها لغوائل النفس البشرية.. حيث ظلت طباع وعادات وفكر وممارسات القبائل المغولية متوارية هناك في العمق كالنار تحت الرماد تظهر بين الحين والحين.
وصارت تتبدى وتظهر بشكل أوضح بين الحين والآخر في الأحداث المفصلية والمحكات الأخلاقية سواء على المستويات الفردية والأسرية كمواقف الميراث مثلا أو على المستويات الأكبر في حوادث الأمم في الاختيارات بين المبادئ والمصالح... هنا تظهر حقيقة المنظومة الأخلاقية أو اللا أخلاقية الحاكمة للفرد والأسرة أو المجموعة العرقية والجغرافية والمهنية مهما بدا من ادعاءات لفظية او اجتماعية أو دينية مغايرة فنجدها سائرة إلى قدرها مدفوعة بقيمها المغولية البدوية لاختيار أعرافها التليدة ومعتقداتها الشعبية على حساب غيرها من عرف أو شرع أو قانون ومنكرة صراحة أو متجنبة فعلا الخضوع لما يخالفها مع الاحتفاظ بالانتماء للمجال العام الذي تعيش بداخله.
لقد صنعت الصراعات والحروب وخطوط التجارة في آسيا خزانا بشريا وخط إمداد بالعناصر البشرية المقاتلة ورجال الحكم والجند والإدارة وعلماء ومشايخ ودراويش في مصر على مدى مئات السنين وأثرى ذلك التنوع العرقي والمنظومات القيمية وأثر في المجتمع المصري ومنظومة قيمه وأسلوب رؤيته للحياة.. بل وحملت معه مخيلة وذائقة شعبية صاغت قصص الف ليلة وليلة عبر طريق الحرير منتهية بقصة شهرزاد الأخيرة في القاهرة مع حكاية معروف الإسكافي المصري.
ففي مصر تراث وممارسات وأعراف بل وأكلات حفظتها الجدات والأمهات في منظومات قيمية وأخلاقية ونقلتها إلى الأبناء والبنات ونجد آثارها حتى الآن في ممارسات اجتماعية وثقافية متعددة حيث ينصهر الجميع في مصر بتراثهم من قبط ويونان وعرب وسودان وكرد وتركمان وأبخاز وتتر وترك وشركس وأحباش وبربر وأرمن وأوزبك وكازاخ وغيرهم في فسيفساء وجينات المصريين المحدثين ومنظوماتهم القيمية الرئيسية الأربع (النهرية/ البحرية/ الصحراوية/ الجبلية والسهوب المغولية) في صورة واحدة بألوان متماهية ومتباينة في آن واحد.
ومع هذا المجتمع المشكل من سبيكة أخلاط الأعراق المنصهرة بما يزيد عن خمسين عرقا وجنسا.. أرى أنهم أصبحوا جميعا مصريين وقد عرفوا لدى بني جنسهم في آسيا بالمماليك "المصرلية" حيث لم يعرفوا لأنفسهم وطنا آخر بحكم المعيشة وانصهارهم شبه الكلي في المجتمع بما أكسب مصر عامة والقاهرة خاصة ومجتمعيهما زخما عالميا وتنوعا منفصلا متصلا في آن..
وذلك قبل أن تعرف الدنيا مفهوم "العولمة" بما يزيد عن ألف عام وربما لذلك وبين أسباب أخرى سميت مصر بأم الدنيا
No comments:
Post a Comment